الرأي

أربع دول خليجية تعلن «الحرب» على لبنان والحرب الطائفية تدق أبوابه

أعلنت أربع دول خليجية الحرب على لبنان وبقيادة المملكة العربية السعودية، ومنعت رعاياها من السفر إليه، وطلبت من المقيمين منهم على أراضيه العودة فورا، عقابا للحكومة اللبنانية التي «تحفظت» على قرار لوزراء الخارجية العرب يدين تدخل إيران في الشؤون الداخلية العربية، حفاظا على مصلحة بلدها، والاستقرار الهش في أراضيه.
لأن المملكة العربية السعودية تقدم مساعدات مالية لبعض حلفائها في لبنان، ووعدت بمنحة مالية قيمتها أربعة مليارات دولار لتسليح جيشه وقواته الأمنية بأسلحة فرنسية، فإنه بات مطلوبا منه وحكومته، وكل طوائفه، أن يضعوا سيادتهم وكرامتهم جانبا، وأن يرضخوا لكل الإملاءات السعودية، وأن يعلنوا الحرب على كل أعدائها، بمن فيهم إيران وحزب الله، بغض النظر عما يمكن أن يترتب على ذلك من أخطار على أمن البلاد، وتعايشها ونسيجها الاجتماعي والسياسي الهش.
كان منظرا مؤلما ومحزنا في الوقت نفسه، أن نرى المئات من الشخصيات اللبنانية، السياسية والدينية (معظمهم من الطائفة السنية)، «يحجون» إلى السفارة السعودية في بيروت «معتذرين» وطالبين الغفران، وأصدر مجلس الوزراء اللبناني بيانا أكد فيه على أهمية الإجماع العربي في القضايا المشتركة، وقال إن لبنان لن ينسى للمملكة دعمها السياسي والمالي طوال العقود الماضية، وأعلن السيد تمام سلام رئيس الوزراء نيته للقيام بجولة خليجية بدءا بالسعودية لتقديم الاعتذار وتطييب الخواطر، ورغم ذلك لم تقبل السلطات السعودية كل هذه الاعتذارات، وسخرت من بيان مجلس الوزراء اللبناني باعتباره ليس كافيا، وتمسكت بموقفها الرافض لإرسال دولار واحد للبلد الذي كان شقيقا، ولم ترد على طلب رئيس الوزراء زيارتها، حتى كتابة هذه السطور في إهانة متعمدة.
لا نعرف ماذا تريد القيادة السعودية من لبنان ورئيس وزرائها ونخبتها السياسية؟ هل تريد أن يذهب السيد سلام زاحفا على ركبتيه وبطنه من بيروت إلى الرياض لكي تنظر بعد ذلك في مسألة الغفران وقبول الاعتذار، ولا نقول تقبل به، وتغفر له ما ارتكبه وزير خارجيته من كبائر؟
بات من الصعب علينا هذه الأيام فهم السياسات السعودية وطابع «الحرد» الذي يشكل العمود الفقري فيها، حتى بات عدد أصدقائها يتناقص بشكل مضطرد، بينما يرتفع عدد أعدائها أو المختلفين معها في المقابل، في وقت تخسر فيه أهم سلاح في يدها وهو «المال» بسبب تراجع أسعار النفط وعوائده، وتخوض حربين بلا قاع، واحدة في اليمن، جوارها الجنوبي، والثانية في سورية لأسباب ثأرية انتقامية.
لبنان لم يطلب المنحة المالية من المملكة، بل هي التي تطوعت بها، وللجيش اللبناني الذي يفترض فيه أنه جيش لكل اللبنانيين، بغض النظر عن طوائفهم ومذاهبهم، وعقيدته الوطنية التصدي لأي عدوان اسرائيلي، ووقف المنحة المالية السعودية هذه التي ستحرمه من تحديث أسلحته وسيصب في مصلحة اسرائيل بالدرجة الأولى، وتقليص قدراته في مواجهة «الارهاب» التي تعلن السلطات السعودية أنه سيترأس قمة أولوياتها.
المملكة تكره «حزب الله»، وكانت تأمل أن يقوم العدوان الاسرائيلي عام 2006 بالقضاء عليه واجتثاثه تماما، مثلما نجح الاحتلال الأمريكي للعراق باجتثاث حكم الرئيس صدام حسين، وحزب البعث، ومثلما تحاول حاليا القضاء على التحالف «الحوثي الصالحي» في اليمن، ولكن 31 يوما من العدوان والقصف الاسرائيلي بأحدث الطائرات والدبابات الأمريكية الصنع لم تنجح في هذه المهمة، فهل تتوقع المملكة أن ينجح الجيش اللبناني في ما فشلت فيه اسرائيل، القوة الاقليمية العظمى النووية في المنطقة؟
نعم.. «حزب الله» قوة أكبر في الدولة في لبنان الضعيفة، ويملك أكثر من مئة ألف صاروخ من كل الأوزان والأحجام والأبعاد، والحكم في لبنان يقوم على التوافق والتوازن الطائفي، ووفق اتفاق الطائف الذي جرى توقيعه على أرض المملكة وبوساطتها، أي أن قوة هذا الحزب ليست سرية، وإذا كان هناك أحد يتحمل مسؤولية قوة هذا الحزب فهي المملكة، التي أدت وساطتها إلى إخراج القوات الفلسطينية «السنية» من لبنان بتحريض أمريكي، وأخلت الساحة كاملة للحزب والميليشيات الأخرى الموالية لإيران وسورية.
نعم ثانية.. وهي أن «حزب الله» حليف قوي لإيران، زعيمه السيد حسن نصر الله يؤمن بالولي الفقيه، وأعلن ذلك مرارا على رؤوس الأشهاد بالصوت والصورة، ولكن تحريض السعودية حلفائها في لبنان للنزول إلى الشوارع، وميدان الشهداء في بيروت على وجه الخصوص، أو حتى تقديم السيد سلام الاستقالة، مثلما يطالب بعض الكتاب السعوديين، سيخدم هذا الحزب، وإيران على وجه التحديد، وسيدخل لبنان في دوامة من الفتن وعدم الاستقرار، وربما الحرب الأهلية.
فإذا كانت حكومة المملكة نفسها تتودد إلى الطائفة الشيعية في الأحساء، ويذهب ولي عهدها شخصيا لتقديم العزاء لأهالي ضحايا تفجيرات المساجد على يد خلايا «الدولة الاسلامية»، وتصف هؤلاء بالشهداء، فلماذا تريد أهل السنة المسالمين الوادعين في لبنان أن «يثوروا» على هيمنة «حزب الله» والدخول في حرب دموية معه، لأنه لم يدن بشكل كاف حرق السفارة السعودية في طهران؟ وهل هذا الحرق يستحق كل هذا الغضب السعودي، والنتائج التي يمكن أن تترتب عليه؟
تتهمون «حزب الله» بالاساءة إلى المملكة وهذا صحيح، ولكن هل قصرتم في الإساءات تجاهه أيضا؟ من الذي أطلق عليه «حزب الشيطان»، و«حالش»، و«حزب اللات»، والمجوس، والرافضة وأبناء المتعة، وكل الأوصاف الأخرى البذيئة التي يعف اللسان عن ذكرها، ومن قبل مسلمين موحدين يستضيفون على أرضهم المقدسات الإسلامية والكعبة المشرفة؟
القيادة السعودية تدرك جيدا أن السيد جبران باسيل هو وزير خارجية لبنان، وليس وزير في الحكومة السعودية، ولذلك فهو محكوم بسياسات وتوازنات طائفية، والشيء نفسه يقال عن السيد سلام رئيس الوزراء، ومن الخطأ دبلوماسيا وسياسيا وأخلاقيا، مطالبتهما بالخروج عن هذه التوازنات، فإذا أردت أن تطاع فاطلب المستطاع، وجد لأخيك عذرا، إذا كنت تعتبره أخا.
مثل هذه الخطوات السعودية الغاضبة والمتسرعة تخدم «حزب الله» وتصب في مصلحة النفوذ الايراني في لبنان، وتعطي نتائج عكسية سيئة على حلفائها في البلد، وعلاقاتهم التاريخية مع المملكة، ومن يقول غير ذلك «يغطي الشمس بغربال»، مثلما يقول المثل. لا نجادل مطلقا في حق المملكة في أن تمنح المال لمن تشاء، وتحجبه عمن تشاء، واتخاذ إجراءات تخدم مصالحها، ولكن هناك أوجه عديدة لخدمة هذه المصالح، والتعبير عنها بطرق أقل «استفزازية»، وكان بمقدور السلطات السعودية أن تؤجل دفع هذه المنحة لسنوات، وبهدوء، ودون أي إعلان، وهناك الكثير من الذرائع المتوفرة لها، مثل انخفاض دخلها من النفط بأكثر من 70 بالمئة، وانخراطها في حروب عديدة، ولكن يبدو أن هناك في المملكة من لا يؤمن بالهدوء والدبلوماسية والعقلانية، وكيفية كسب الأصدقاء، وتحييد الأعداء، أو تقليص أخطارهم، وكل قيم الارث السعودي الأخرى المتبعة منذ ثمانية عقود.
نسمع تهديدات بخطوات «انتقامية» جديدة يمكن أن تقدم عليها المملكة وحلفاؤها الخليجيون، مثل إبعاد اللبنانيين في أراضيها، أو تسليح ميليشيات سنية لمواجهة «حزب الله»، مثلما لمح إلى ذلك السيد نهاد المشنوق وزير الداخلية اللبناني، ولكن مثل هذه الاجراءات قد تؤثر بشكل سلبي على المواطن اللبناني البسيط، ولقمة عيشه، الأمر الذي سيصّعد العداء ضد المملكة، ويوفر الذخائر للدعايات المعادية لها، وعلى رأسها الدعاية الايرانية، وفي مثل هذا التوقيت الحرج.
نتفق مع السيد المشنوق في قوله أمام السفير السعودي في بيروت بأن لا خيار للبنان إلا بعروبته.. ونضيف قائلين، شريطة أن تكون بوصلة هذه العروبة فلسطين، وأن تكون بوصلة وطنية جامعة وعابرة للطوائف، وتركز على التعايش المشترك.
لبنان لم يخطئ حتى يعتذر.. فهل الحفاظ على أمن البلاد واستقرارها، وبذل كل الجهود لتجنب حرب أهلية طائفية «خطيئة» تستحق الاعتذار؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى