الرأي

أستاذ تارودانت..

المصطفى مورادي
خلفت حادثة «أستاذ تارودانت» تعليقات كثيرة، بعضها انتصرت للأستاذ، وأخرى للأسرة. لكن المؤكد أن ما حدث للطفلة هو جريمة، ولا شيء يتيح لـ«الراشدين»، مهما كانوا، ضرب طفلة أو طفل أو حتى تبريره. إنما وضع المسافة مع الانفعالات التي كانت خاصية مشتركة لمختلف التعليقات، تجعلنا نفكر في الحادثة على نحو مختلف. فالأمر يتعلق بتصادم ثلاث سلط، يفترض أن تكون العلاقة بينها علاقة تكامل وظيفي: سلطة المُدرس وسلطة الأسرة ثم سلطة الدولة.
فمنذ تحولت التربية إلى شأن عام، مع تأسيس الدولة الحديثة، وظهور مفهوم إلزامية التعليم والتثقيف، أضحى المدرسون مفوضين من طرف الدولة للقيام بمُهمة كانت تحتكرها الأسرة في العصور الوسطى والقديمة، وأضحت الأسر مجبرة على تدريس أبنائها تدريسا عموميا، أي مجبرة على التنازل عن سلطة تقرير مصير الطفل وفقا لمعتقداتها الخاصة. ليكون المدرس فاعلا في تقرير مصير هذا الطفل وفقا لتوجهات تتوافق عليها الأمة. لذلك لا يوجد فيلسوف أو عالم اجتماع أو عالم نفس في مجال التربية إلا وأسس أطروحة له في موضوع سلطة المدرسين. والعارفون بتاريخ التربية الحديثة يعرفون جيدا أن موضوع السلطة التربوية هذا كان مدار النقاش المجتمعي والسياسي والبيداغوجي إبان الثورة الشبابية للستينات، ومايزال إلى اليوم خصوصا في الثانويات.
مغربيا، وكامتداد للثقافة العربية الكلاسيكية، كان المغاربة إلى عهد غير بعيد ينظرون للمدرس على أنه «المُهَذِّب» و«المُؤَدِّب»، وتهذيب الطفل يعني لغة «تطهير الأخلاق مما يعيبها». لذلك لا عجب أن ضرب المُؤدِّبين للصبيان كان حينها وسيلة مشروعة لـ«تطهير العيوب» و«تقويم الاعوجاج». ف«المعلم يذبح» والآباء «يسلخون» كما كان يقول آباؤنا قديما. حينها لم يكن بإمكان الأسر التشكيك في سلطة المدرس و«حقه» في الضرب.
اليوم، هناك تحولات عميقة مست مكانة المدرسة ومعها المُدرس في المجتمع المغربي. تحولات مصدرها تبني المغرب، في العقدين الأخيرين على الأقل، لأدبيات التربية الحديثة، والتي تعتبر ضرب المعلم لتلميذ بمثابة ضرب مواطن لمواطن. بل إن الطفل أضحى هو الفلك الجديد للعملية التربوية، تدريسا وتقويما وتنشيطا. مع الإشارة هنا إلى أن هذه التحولات تجعلنا نرى ما كان يحدث في مدارسنا في العقود الثلاثة التي تلت الاستقلال، على أنها هي أيضا «سنوات الجمر والرصاص» تماما كما كان يحدث حقوقيا وسياسيا.
إذن، بقدر ما يتوجب الوعي بأن صورة المدرس أمس لم تعد هي نفسها اليوم، وأن الرهان الأخلاقي للتهذيب أمس لم يعد هو نفسه رهان التربية اليوم، فإنه ينبغي، أيضا، الوعي بأن التحولات التي حدثت لم يحكمها «عقل» أو «قانون». فالأسر تخلت في معظمها عن أدوارها، وفي الوقت نفسه تم تقليص دور المدرسين قياسا لأدوارهم الشمولية في الثقافة العربية الكلاسيكية. إن الحقيقة المؤكدة هي أن العملية التربوية في جوهرها لا يمكن أن تنجح بدون إقرار واعتراف بسلطة المدرس على تلامذته. وهذا الاعتراف يضع حدودا لتدخل الأسر والدولة أيضا في عمل المدرس. وإلا بأي معنى نتحدث عن التعليم الإلزامي؟ أليس الإلزام تجليا من تجليات السلطة؟ ثم ألا يعني مصطلح تلميذ élève معاني إجبار الطفل على النهوض والسمو، أي إجباره على أن يكون إنسانا متمدنا؟
ما حدث إذن في تارودانت ينبغي أن يكون مناسبة لنناقش موضوعيا العلاقة بين السلطات الثلاث التي تتقاسم دور تربية الأطفال. لا أن نستغل الحادثة لتمرير مواقف نقابية أو فئوية، شعارها «انصر أخاك ظالما أو مظلوما»، وفي الوقت نفسه لا ينبغي أن تكون مناسبة لتصفية حسابات اجتماعية ونفسية مع المدرسين، ففي الأخير لا مفر لنا من أن نجد التوليفة المناسبة لتقوم الدولة بأدوارها، ويقوم المدرس بأدواره وتقوم الأسرة أيضا بأدوارها.

مقالات ذات صلة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى