الرأي

أنباء الأمس واليوم وغدا

ضحك الكاتب الروائي عبد المجيد بن جلون، كما لم يفعل في «طفولته» و«وادي الدماء»، والتفت إلى صديقه الأستاذ عبد الكريم غلاب يسأله: «كيف تريد أن أثق في أنباء اليوم، وهي في غالبيتها تعرض لأحداث الأمس؟» قالها مازحا، لأن علاقة الرجلين كانت تسمح بتبادل العتب الذي يجعل الحياة مريحة، عند التخلص من شوائبها.
كان يعرف أن غلاب يحتضن «العلم» رفيقة درب، لا تفارقه. ولعله الناشر الذي ضرب الرقم القياسي في تصفح كل ما تنشره، خصوصا وأنه كان يدرك أن بعض الهفوات لن تغفرها الرقابة المتطاولة حتى على الكلام شبه المباح. وبدا أنه يمازحه للتخلص من حالة حضور البديهة.
كان بن جلون يقلب صفحات «العلم» ووقع نظره على ركن عنوانه «أنباء اليوم» ينتقي عادة الأخبار الرسمية، ويقدمها حافية بلا مساحيق. فقد كان حزب الاستقلال معارضا، ومن تراتبية المواقع أن كل ما تفعله الحكومات لا يستحق الذكر. وللحقيقة فإن غلاب، على رغم تشدده، لم يكن يمانع في نشر الأخبار الرسمية، لأنها تمس عمل قطاعات حكومية لها علاقة بحياة المواطنين.
كان يقول دائما إن ما يعني حياة الناس من تدابير وإجراءات يتعين تبليغها إلى الرأي العام، حتى وإن كان الحزب يعارضها، لأن من حق القارئ أن يعرف ما تقوم به الحكومة، وإن كانت غير منتخبة ديمقراطيا، أو مفروضة من طرف السلطة السياسية، يوم سادت حالة الاستثناء وما تلاها من تردد.
علق غلاب على ملاحظة صديقه في ما احتفظت به الذاكرة: «لا يهم أن تكون أنباء الأمس أو اليوم، فالأهم أن تكون وقعت فعلا»، أي أنها حقيقية، وما عدا ذلك قابل للنقاش.
الصدفة وحدها مكنتني من حضور لقاء الرجلين، فقد كان الأستاذ غلاب يستدعيني إلى مكتبه، ويملي علي افتتاحيات الجريدة بطلاقة ونباهة سياسية ولغوية، وإليه يعود الفضل في اكتشافي بعض أسرار الكتابة السياسية التي قد تخطئ وتصيب، على قدر النوايا والاستقراءات.
كان الروائي عبد المجيد بن جلون يدلف مباشرة في بعض المساءات إلى مكتب رفيقه غلاب، وكان يبدو دائما منشغلا وصامتا، بالكاد يلتفت إلى من يعترضه في الممر. ورأيته على غير تلك الصورة رجل طرافة، بشوش الوجه طليق اللسان، لا تغيب عنه أرستقراطية الطبع على غرار دبلوماسيي المرحلة الذين يتحدثون في أمور الثقافة والأدب، ونادرا ما تنساب على أصواتهم أخبار السياسة والسياسيين.
ماذا دهاه حتى يلتفت إلى أن الجريدة تقدم أنباء أمس في صيغة اليوم؟ كل الصحف تفعل ذلك. ولم تختف كلمة الأمس في تقاليد إعلامية، إلا من خلال أخبار الوكالات ثم مواقع التواصل الاجتماعي التي باتت تسابقها في السرعة.
غير أن محررا أمريكيا في وكالة شهيرة تعرض إلى الطرد مرة، لأنه أغفل عن تحديد تاريخ اليوم والأمس، فقد كانت الوكالة تجتاز أزمة مالية خانقة، وراقبت أعمال محرريها، كي تتصيد الهفوات لإشعار بعضهم بأنه تم الاستغناء عن خدماتهم. لكن تقليد الأمس واليوم والزمان والمكان بات آخر ما تفكر فيه الصحافة المتسرعة. حتى أن حادثا معينا تجب قراءته في أكثر من منبر للإلمام بحقيقة ما وقع، إن كان ذلك حدث فعلا. وأترك التعميم تلافيا للتخصيص، والكتابة بصيغة الماضي لا ضير فيها ولا ضرر.
تذكرت هذه الواقعة، وقد سألني سائق «الطاكسي» الذي رجوته أن يقتني صحيفة الغد: كيف تكتب الصحافة عن أخبار الغد وشمس اليوم لم تغب في الأفق؟ وعرجت بي الملاحظة إلى استحضار ما كان يخطه الزميل الكاتب عبد القادر الإدريسي إذا عرض لتظاهرة ثقافية في الأيام القادمة، لا بد أن يقرن الخبر بكلمة «إن شاء الله». وكم كان محقا في استشعاره، لأن بعض الأخبار لا يمكن التأكد منها إلا بعد حدوثها فعلا.
من ذلك على سبيل المثال، أن مبعوثا عن الجامعة العربية صدرت أخبار بأنه سيصل إلى الرباط في وقت محدد. لكن الطائرة التي كان يقلها أصابها عطل ولم تصل في موعدها الذي أرجئ إلى الغد. ونبه أحد مساعدي الأمين العام الأسبق لجامعة الدول العربية عصمت عبد المجيد، إلى أنه كرر مرات عدة مقولة أنه سعيد بحلوله بأرض الجزائر، بينما كانت الطائرة حطت في مطار الرباط. والتبس عليه الأمر، فقد كان مقررا أن يبدأ زيارته إلى منطقة الشمال الإفريقي بالجزائر.
وعندما صدرت صحف جزائرية تحمل خبر الزيارة في يومها، لم تكن تنشر خبرا زائفا، لكن الغائب حجته معه قبل أن تطأ قدمه المكان الذي يقصده. ولم يجد الملك الراحل الحسن الثاني بديلا عن إرجاء الطبعة الأولى لقمة فاس لعام 1981، مباشرة بعد افتتاحها، بمن حضر، لأنه كان يتوقع حضور كافة القادة الذين أكدوا موافقتهم، ثم تبين أن الموافقة كانت مشروطة. وخاطب الحسن الثاني نائب الرئيس السوري حافظ الأسد، وكان وقتذاك وزير الخارجية المنشق عن نظام ابنه بشار الأسد. قائلا إنه مثل رئيسه. «لكن الصورة ديالو ماشي بحالو» على إيقاع أغنية عبد الهادي بلخياط.
كانت وكالات الأنباء والصحف العربية والدولية التقت في «مانشيتات» تتحدث عن القمة التي تفتتح اليوم، إلا أنها أرجئت بعد أقل من خمس دقائق على انطلاقها، على موعد التئامها العام المقبل لإقرار مشروع خطة السلام الذي حمله ولي العهد السعودي وقتذاك الأمير فهد بن عبد العزيز.
أختم بآخر ما سمعته عن أوضاع الصحافة في ملاحقاتها لأحداث الأمس واليوم وغدا، فقد علق صديق بأن أخبارها أفضل دواء يساعد في ارتفاع ضغط الدم، وقال إنه حين يشعر بانخفاض منسوبه يقرأ ما تخطه الصحافة، لأن سعرها أقل من أي دواء يساعد على ارتفاع ضغط الدم. ولئن كانت هذه ميزة علاجية لبعض المشاكل الصحية لعموم الناس، فكيف سيكون الأمر بالنسبة للمسؤولين الذين يتابعون ما ينشر، ولا نسمع كثيرا عن ارتفاع الضغط لديهم، إلا إذا كان الدواء أكثر فعالية في خفض منسوبه؟
وكل عام وأنباء الأمس واليوم وغدا بألف خير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى