شوف تشوف

الرأي

أول غرزة جراحية

من مشفى المواساة في دمشق حيث كنت أتدرب، رجعت إلى زوجتي فرحان، لقد عملت القطبة الأولى في الجراحة. يقولون في الفلسفة: خطوة بميل؛ يعنون بها أن من خطا الخطوة الأولى مشى الميل. هذه الفكرة فلسفية بعمق؛ فأذكر عمليتي الأولى في المواساة أيضا. كنت طبيبا مقيما في نظام الدراسات العليا، ساعدت الدكتور الشامي والطرابيشي وأبو صياح وبكداش، قلت للشامي أرني العملية الأولى، ساعدني في الثانية، واتركني في الثالثة لوحدي. ولكن مثل هذا لم يكن في ألمانيا، ومثله يغرق الجراح فيه والمريض، وقد يدفع المريض حياته ثمنا لمثل هذه الفلسفة في التعليم. في ألمانيا كانوا على رؤوسنا دوما، الأساتذة فوجئوا بالمشروع كله، أعني خرافة الدراسات العليا والتخصص فيها، وأنا ضيعت فيها أزيد من سنتين قبل حزم حقائبي باتجاه ألمانيا للتخصص. ظننت أن عملية الفتق عند طفل سهلة فتحت المكان لم أر فتقا فأغلقته. البواسير كانت مصيبة المصايب، ظننت أنها عملية بسيطة وقطع فقط، كان المرضى الثلاثة يصرخون من شدة الألم. الفتق الأول ظننت أنه واضح وليس مثل الذي لدى الأطفال، فتحت وصلحت وربطت وقلت ممتاز. تعلمنا قاعدة من الألمان أن كل شيء له أصوله. نحن كنا نشتغل بدون أصول، نكست العملية بعد ثلاثة أيام وخجلت من نفسي. في ألمانيا عرفنا ما معنى التخصص والتدريب، كنا نضيع الوقت في وزارة الصحة في سوريا، لقد أفسد البعث كل شي بما فيها الصحة. أخيرا هربت ولم أرجع لبلدي قط في ممارسة، وكانت خبرتي ممتازة أن تنقل لجيل من الشباب، ولكن سوريا كلها منهبة مقتلة تحت نظام مافيوزي مجرم دموي فلم تبق ثمة ضمانة لأي شيء أو إنسان في أي مكان أو زمان.
بين الغرزة الأولى وعملية جراحة الأوعية الدموية على أم دم أبهرية ملتهبة بوقت وصل إلى 14 ساعة فترة طويلة. الغرزة الأولى كانت عام 1972م أما عملية أم الدم الأبهرية فكانت عام 1995م أي بفارق أكثر من عشرين عاما. بعد الغرزة الأولى جاءتنا فرصة التدريب في مشفى المقاصد الخيرية في بيروت، قضيت فيه ثلاثة أشهر لا تنسى. ثم تدربنا في مشافي الحكومة في حلب فكانت كارثة. خرجت إلى ألمانيا فتعلمت على نحو سليم قيادة السيارة والجراحة على حد سواء. حين أتذكر رحلة الطب والجراحة والتخصص فيها من عام 1975 حتى النهاية في عام 1982م أقول تعلمنا فيها الكثير، وأنقذنا حياة الكثيرين، ولكن الغرزة الأولى الجراحية التي قمت بها لها طعم خاص وكانت نقطة تحول في حياتي؛ فللمرة الأولى أمسكت حامل الإبرة والملقط والخيط، وكان يومها ليس من النوع المصنوع الجاهز للخياطة بل لابد من نظمه في أبر وخيطان معقمة. فسبحان الدائم الذي لا يحول ولا يزول.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى