دين و فكر

أَنَا وكافلُ الْيتِيمِ في الجنَّةِ

أحمد الراقي
الحديث الثاني والستون بعد المائة الثانية

عن سهلِ بن سعدٍ رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: «أَنَا وكافلُ الْيتِيمِ في الجنَّةِ هَكَذَا» وأَشَار بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، وفَرَّجَ بَيْنَهُمَا. رواه البخاري. و«كَافِلُ الْيتِيم»: الْقَائِمُ بِأُمُورِهِ.
أسس الإسلام قاعدة التكافل الاجتماعي، وهي قاعدة إنسانية تلبي حاجة الضعيف وتؤمن فزع المكلوب وتؤنس طوائف المبتلين بأنواع البلاءات من العوز والفاقة واليتم والخوف ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، واليتيم في الإسلام له حقوقه التي تستلزم رعايته وتربيته وتعليمه، وكفالة اليتيم تتحرك لتشمل كل ما يحتاجه ذلك الطفل الذي حرم رعاية أبيه وحنان أمه.
والحديث في بنائه اللغوي ينزع إلى الترغيب وإلى زرع الرحمة بالأيتام في قلوب المسلمين، ويتخذ الحديث أسلوبا مشوقا مرغبا، حيث يبدأ بلفظ «أنا» وهو الضمير المتكلم، ومن المتكلم؟ إنه أشرف المرسلين وخاتم النبيين والمبعوث رحمة للعالمين. فأي صحبة من هذه الصحبة، وأي أشرف وأعظم من هذا التكريم حيث يبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني الأمة بأن كافل اليتيم معه في جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين، ولهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيدا كما وعد الله عز وجل.
والإشارة في الحديث بالسبابة والوسطى والتفريج بينهما تضيف أبعادا جديدة إلى المعنى وتقوي التأثير في نفوس السامعين، وهي لغة تفوق الكلام في هذا المضمار لأن الحركة تومئ إيماء لطيفا وتهجم إلى العين وتؤدي المغزى المتبقي من الحركة، ويقول القرطبي مفسرا دلالة قوله هاتين، إنه معه فيها أي في الجنة وبحضرته غير أن كلا منهما على درجته فيها إذ لا يبلغ درجة الأنبياء غيرهم.
إن المجتمع المسلم مطالبٌ بالقيام بهذا الواجب، حتى لا يفقد اليتيم حنان الأب فيجد من إخوانه المسلمين آباءً يعطفون عليه، ويحسنون إليه، ويضمِّدون جراحه، ويمسحون دموعه، ويحسنون إليه، ويجد من المسلمات، من هي تحنّ على اليتيم وتحسن إليه، وتتلطف به، وتكرمه، وتعامله كما تعامل أطفالها، رجاء المثوبة من رب العالمين.
إن اليتم ليس عيبًا في الإنسان، وليس يتمُه مسببًا لتأخره، وليس يتمه قاضيًا على نهضته وتقدمه، فكم من يتيم عاش بخير!! ونال ما نال من الخير بفضل الله، فهذا سيد الأولين والآخرين، خير من وطئت قدمه الثرى، يقول الله له مذكرًا نعمه عليه: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى) [الضحى:6-8]، ذلك أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- توفي أبوه عبد الله وهو حمل في بطن أمه، وتوفيت أمه وهو في السابعة من عمره، وتوفي جده وهو في الثامنة من عمره، وكفله عمه أبو طالب، وما زال ينشأ حتى إذا بلغ أشده أوحى الله إليه، وكلفه بهذه الرسالة العظمى، التي أشرقت بها الأرض بعد ظلماتها، وتآلفت القلوب بعد شتاتها، وأنار الله به البصائر، وأخرج به الأمة من الظلمات إلى النور، فصلوات الله وسلامه عليه.
أخي المسلم: تلطف باليتيم، وأحسن إليه، وخاطبه بالقول اللين، وامسح على رأسه، وذكِّره بأن له عوضًا عن أبيه من إخوانه المسلمين. وانظر إليه نظرة الرحمة والإحسان، وانظر إليه نظرة الشفقة والرحمة والإحسان، ومحبة الخير له، فذاك قربة تتقرب بها إلى الله.
أخي المسلم: أموال اليتيم عندك أمانة، فإن اتقيت الله فيها كنت من المتقين، وإن ضيّعتها كنت من الخائنين: (وَءاتُواْ الْيَتَـامَى أَمْولَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْولَهُمْ إِلَى أَمْولِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً) [النساء: 2].
إن رعاية الأيتام كانت خلقًا لأهل الإسلام، أخذوها من خلق سيد الأولين والآخرين محمد بن عبد الله -صلوات الله وسلامه عليه-، قتل جعفر بن أبي طالب يوم مؤتة وكان وراءه صبية صغار، فجاءت الأم تشكو إلى رسول الله يُتم أطفالها وحالتهم فقال: «أتخافين عليهم وأنا وليهم في الدنيا والآخرة؟!»، ولما قدم الوفد بعد الغزوة بحث عن أولاد جعفر فأركبهم معه إكرامًا وتضميدًا لجراحهم، صلوات الله وسلامه عليه.
وأخيرا تفكروا وأنتم تدخلون بيوتكم فيستقبلكم أولادكم بالبشر والسرور وهم يرددون (بابا بابا)، فيلتفون حول آبائهم، ويلقون أنفسهم في أحضانهم، فيحاطون بالأيدي، ويضمون إلى الصدور، ويقبلون على الجباه والرؤوس، فكم من طفل يتيم حُرم من أمه وأبيه، يقف لسانه عاجزًا عن قولها لحرمانه من أحدهما، لم يسمع هذا الطفل يومًا كلمة (يا ولدي)، ولم يستشعر في يوم من الأيام معاني العطف والرعاية والرحمة والحنان، تذكروا ذلك اليتيم الذي لم يجد طعامًا وشرابًا يتلذذ به كما يتلذذ أولادنا، انظروا لذلك اليتيم وقد حرم أعظم حنان وأجل حب، حُرم ممن يدخل عليه السعادة والسرور، حرم ممن يدخل عليه بلباس العيد لكي يفرح مع أطفال المسلمين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى