الرئيسية

إفريقيا وأدب ما بعد الاستعمار

إعداد وتقديم: سعيد الباز

مقالات ذات صلة

أطلق مفهوم أدب ما بعد الاستعمار على الأعمال الأدبية التي ظهرت في القرن العشرين، وتناولت أزمة البلدان التي عانت من الاستعمار وما خلفه من تأثيرات جسيمة على هذه الشعوب ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا. في إفريقيا، برزت عدة أعمال أدبية يمكن اعتبار أنها تنتمي إلى أدب ما بعد الاستعمار، مثل رواية «أشياء تتداعى» للنيجيري تشينوا أتشيبي، ورواية السوداني الطيب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال»، والأعمال الروائية والسينمائية للروائي والسينمائي عثمان سمبين.

تشينوا أتشيبي.. كاتب تاريخ الأُسُود

يعتبر الروائي النيجيري تشينوا أتشيبي (1930-2013) Chinua Achebe رائدا من رواد الرواية الإفريقية، انطلاقا من روايته الأولى «أشياء تتداعى» سنة 1958 التي حققت له شهرة واسعة إفريقيا وعالميا، حيث ترجمت إلى أكثر من 50 لغة. ولد تشينوا أتشيبي في شرق نيجيريا من والدين مبشرين بالمسيحية، درس اللغة الإنجليزية والتاريخ في جامعة «إبادان» التي أسسها الإنجليز في الفترة الأخيرة من استعمارهم لنيجيريا. لكنّه، كأيّ نيجيري عاش حقبة الاستعمار، عانى من الصراع بين الموروث الوثني والتقاليد الإفريقية الراسخة في وجدانه، ومسيحية أبويه والندوب التي خلفها الاستعمار الإنجليزي عبر سياسته القمعية القائمة على احتقار الشخصية الإفريقية ودمغها بكلّ ما هو متخلف وبدائي. رواية «أشياء تتداعى»، التي استمد تشينوا أتشيبي عنوانها من قصيدة معروفة للشاعر الإيرلندي ويليام بتلر ييتس، يستهلها بهذا الجملة الدّالة: «إلى أن تجد الأسُود من يكتب تاريخها، تاريخ الصيد سيمجّد دائما الصياد»، التي تختصر عالمه الروائي. فالبطل الرئيسي للرواية «أُوكونكوو»، الذي يقدّس آلهته وقبيلته، يتعرض للنفي بسبب ارتكابه لجريمة قتل بالخطأ، يعود من جديد، بعد مدة طويلة، ليجد مبشري الاستعمار الإنجليزي قد بنوا كنيسة واستمالوا العديد من أبناء القبيلة إلى الدين الجديد، وحدوث شرخ في جسم القبيلة، ما جعله رفقة غيورين على إرث الأسلاف يعمد إلى إحراق الكنيسة بعد إخلائها. يعتقل «أوكونكو» ويضطر إلى دفع فدية لإطلاق سراحه، وأثناء اجتماعه مع رفاقه، هاجمهم جنود الاحتلال لفض اجتماعهم غير القانوني فيقتل أحد الجنود بسيفه. ودون أن تناصره قبيلته التي خذلته تأتي قوات الاحتلال لاعتقاله لكنه سيشنق نفسه بحبل ممدود إلى شجرة، دون أن يجرؤ أحد من قبيلته على دفنه.
تنتهي الرواية عند قدوم الحاكم الإقليمي لتفقد جثة «أوكونكو»، فيقول رفيقه القديم للحاكم: «كان هذا الرجل من أعظم الرجال.. دفعتموه لكي يقتل نفسه، والآن سيدفن مثل أي كلب». هذه الرواية التي ألهمت الكثيرين من المناضلين الأفارقة في البحث عن الجذور وبناء كرامة الإنسان الإفريقي في وجه ما تعرضت له الشخصية الإفريقية من إذلال وطمس لهويتها من قبل الاستعمار الأوروبي، فعن هذه الرواية وصاحبها كتب المناضل الإفريقي نيلسون مانديلا وهو في السجن: «كان هناك كاتب نيجيري اسمه تشينوا أتشيبي تحطمت برفقته جدران السجن».

الطيب صالح.. بلاد تموت من البرد حيتانها

الروائي السوداني الطيب صالح (1929-2009) الملقب بـ«عبقري الرواية العربية» وروايته الشهيرة «موسم الهجرة إلى الشمال» التي تعد من بين أفضل الروايات العربية خلال القرن العشرين. فهي تتناول صراع الشرق والغرب وعلاقة تصادم حضارتين مختلفتين ودور الاستعمار في تأجيجه، من خلال شخصية بطلها مصطفى سعيد، الذي رحل إلى العاصمة البريطانية لندن من أجل الدراسة. بطل الرواية أتقن التماهي مع القيم الجديدة وانسلخ تماما عن موروثه التقليدي، لكنه، في الوقت ذاته، يعتبر نفسه غازيا لأرض مستعمره بفضل فحولته وعلاقاته النسائية المتعددة. عودته من جديد إلى أرض الوطن وإلى موروثه القديم، تشكل موضوع الرواية انطلاقا من الراوي الذي هو نفسه طالب سوداني عائد إلى بلده، يحاول الكشف عن حياة مصطفى سعيد الغريبة. من أجواء المقطع الافتتاحي للرواية نجد: «عدت إلى أهلي يا سادتي بعد غيبة طويلة. سبعة أعوام على وجه التحديد، كنت خلالها أتعلم في أوروبا. تعلمت الكثير، وغاب عني الكثير، لكن تلك قصة أخرى. المهم أنني عدت وبي شوق عظيم إلى أهلي في تلك القرية الصغيرة عند منحنى النيل. سبعة أعوام وأنا أحن إليهم وأحلم بهم. ولما جئتهم كانت لحظة عجيبة أن وجدتني حقيقة قائما بينهم. فرحوا بي وضجوا حولي، ولم يمض وقت طويل حتى أحسست كأن ثلجا يذوب في دخيلتي، فكأنني مقرور طلعت عليه الشمس. ذاك دفء الحياة في العشيرة، فقدته زمانا في بلاد «تموت من البرد حيتانها.» تعودت أذناي أصواتهم، وألفت عيناي أشكالهم من كثرة ما فكرت فيهم في الغيبة. قام بيني وبينهم شيء مثل الضباب أول وهلة رأيتهم، لكن الضباب راح. واستيقظت ثاني يوم وصولي في فراشي الذي أعرف، في الغرفة التي تشهد جدرانها على ترهات حياتي في طفولتها ومطلع شبابها. وأرخيت أذني للريح. ذاك لعمري صوت أعرفه، له في بلدنا وشوشة مرحة. صوت الريح وهي تمر بالنخيل غيره وهي تمر بحقول القمح. وسمعت هديل القمري، ونظرت خلال النافذة إلى النخلة القائمة في فناء دارنا، فعلمت أن الحياة لا تزال بخير. أنظر إلى جذعها القوي المعتدل، وإلى الجريد الأخضر المنهدل فوق هامتها فأحس بالطمأنينة. أحس أنني لست ريشة في مهب الريح، ولكني مثل تلك النخلة، مخلوق له أصل، له جذور، له هدف. وجاءت أمي تحمل الشاي، وفرغ أبي من صلاته وأوراده فجاء. وجاءت أختي، وجاء أخواي، وجلسنا نشرب الشاي ونتحدث، شأننا منذ تفتحت عيناي على الحياة. نعم، الحياة الطيبة، والدنيا كحالها لم تتغير».

عثمان سمبين.. صياد السمك وأب السينما الإفريقية

الروائي والمخرج السينمائي السنغالي عثمان سمبين (1923-2007)، نشأ في عائلة فقيرة، اضطرته ظروفه الصعبة إلى العمل صيادا وحمّالا رفقة والده. طرد من المدرسة بسبب شجار مع أحد معلميه الفرنسيين إبّان الاستعمار، إثر إهانة عنصرية لم يستطع الطفل عثمان تحمّلها. ورغم كلّ ذلك كانت له من العزيمة القوية والقدرة على تكوين نفسه ذاتيا من أن يصبح من كبار الكتاب الأفارقة، زيادة على ريادته للسينما الإفريقية حيث يعتبر أب السينما الإفريقية. شارك في الجيش الفرنسي أثناء الحرب العالمية الثانية، وبعد رجوعه إلى بلاده عمل في السكك الحديدية، لكنه فصل من عمله بسبب خوضه للإضراب، فاضطر إلى العودة إلى فرنسا ومارسيليا تحديدا عاملا في مينائها. في سنة 1956 أصدر روايته الأولى «حمّال الميناء الأسود»، وأتبعها برواية «يا وطني يا شعبي الجميل»، انتقد فيهما الحقبة الاستعمارية وصور فيهما نضال شعبه من أجل الحرية والانعتاق من أسر العبودية. أصدر في نهاية الستينات رواية «الحوالة» التي انتقد فيها وضعية بلاده السنغال بعد الاستقلال، وتفشي البيروقراطية والرشوة في دواليب الإدارات الحكومية، من خلال بطلها إبراهيم الرجل البسيط الذي توصل بحوالة مالية زهيدة من ابن أخته العامل في فرنسا، وسيخوض كفاحا مريرا من أجل صرفها فيتعرض لممارسات مشينة وعوائق بيروقراطية وابتزاز الموظفين المرتشين.
انتقل سمبين بسرعة إلى عالم السينما الذي استهواه، فخضع لتدريب مكثف للإخراج السينمائي في موسكو، واستطاع بعصامية أن يخرج أول فيلم روائي إفريقي «فتاة سوداء من…»، أتبعه العديد من الأفلام المستوحاة في الأغلب من رواياته، وبذلك أصبح بحقّ أب السينما الإفريقية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى