الرأي

إيكو.. معلما

كُتب الكثير عن وفاة أمبرتو إيكو، الروائي والسيميائي والناقد والمثقف. لكن الدرس الذي يعلمنا إياه هذا العظيم هو أن الأعمال الأدبية والفنية تأتي في شقها الأكبر من الكدح والعمل الشاق للكاتب والمبدع، في حين يكون نصيب الإلهام ضعيفا. لذلك يذكر طرفة تتعلق بالشاعر ملارميه، والذي ادعى بأن قصيدة له شهيرة أتته دفعة واحدة في غابة، ليتم اكتشاف، في ما بعد، مخطوطة له تظهر أنه كتبها بمسودات تتضمن تشطيبات وتصحيحات، ما يعني أن القصيدة كلفته عملا شاقا وليس فقط إلهاما.. والأمر ذاته في كل أنواع الفنون. فالفنان بعموم القول، إنما هو الذي يعمل جاهدا لإخراج المعنى بأفضل أسلوب، وهو بهذا، لا يخلق معاني من عدم، إنما يكتبها فقط بأفضل طريقة، تماما كعالم اللغة الذي يضع قواعد للغة موجودة قبله، ولا يمكنه أن يصنعها.
من هنا، فإن كان فعل الكتابة فعلا شاقا، فإن فعل القراءة لا يقل عنه صعوبة، فليس كل شخص قادرا على قراءة عمل فني والدخول لعالمه، وإيكو يشبه ذلك بالصاعد للجبل، والذي يضطر لتنظيم إيقاع تنفسه قياسا بطول المسافة التي سيقطعها، وأيضا قياسا لصعوبة الممرات التي ستطؤها قدماه، وإلا لن يتمكن من صعود الجبل. وهنا يحكي قصة مع أحد ناشري روايته «اسم الوردة»، والذي طلب منه تبسيط مائة صفحة الأولى من الرواية لأنها صعبة. ليرفض إيكو طلبه هذا دون تردد، لكون الصفحات المذكورة تصور ديرا، ومن أراد الدخول للدير عليه أن يكيف نفسه مع الدير وليس أن يجعل الدير يتكيف معه. قائلا: من لا يستطيع أن يتعب لقضاء سبعة أيام متواصلة في هذا الدير لن يستطيع فهم هذه الصفحات، بل سيتعب أيضا. هكذا يحصل التطابق أيضا بين تجربة الكتابة والتجارب الحية كما عيشت في الواقع، وتتطابق تجربة الكاتب مع تجربة القارئ.
تأثيره الأكبر يبقى دون شك في كونه فتح مجال النقد الأدبي والسيميائيات على عوالم غير مطروقة قبله، حيث الفلسفة والتاريخ واللسانيات ومختلف العلوم الإنسانية. ففي حضرته يتخلص القارئ من قسوة النقاد، وأغلبهم لا يكتبون إلا ليحكموا ويُقوموا. عندما تقرأ ما كتبه هو نفسه عن روايته «اسم الوردة»، وخاصة كتابه «تأملات في اسم الوردة»، تجد تمازجا قل نظيره بين الروائي/الناقد والناقد/الروائي. تماما كما ستجده يحملك إلى اعترافات يسطرها بتواضع شديد، عن هذا الفن، فن كتابة الرواية تحديدا.. كاعترافه بالسياق الصوفي لإطلاق «اسم الوردة» على روايته الأشهر، وهو العارف والعالم بأهمية العنوان في تشجيع القراء على التأويل. ومع ذلك لم يحسم في معنى معين لهذا الاسم احتراما للقارئ، و«حقه الطبيعي» في توليد التأويلات، من منطلق قناعته الراسخة بكون الروائي مجبرا على عدم الخوض في تأويلات لعمله، وإلا فلن يكون عمله «آلة لتوليد التأويلات».. لمَ لا والرجل مقتنع بأن الإبداع لا ينتهي بكتابة المعنى وإنما يمتد بعد الكتابة على مستوى التأويل..
هنا يلتقي الكاتب والقارئ على صعيد الإبداع، فلا يفضل أحدهما على الآخر، إذ كلاهما منتج لمعان. من هنا اشتراطه بأن يكون العنوان عنصر تشويش ومستفز لإنتاج المعاني من طرف القارئ، لا أن يكون عنصرا منظما. موجها نصيحة للكتاب بالصمت بعد أن ينتهوا مما كتبوه.. إذ الفيصل في ترجيح كفة المعاني هو النص ذاته لا كاتبه.. الذي «ينبغي أن يموت بمجرد أن ينتهي من كتابته حتى لا يعكر مساق النص».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى