الرأي

استراحة رفقة صداقة الكتب

أتعبه الانتظار والتسويف، فجمع أوراقه المبعثرة مثل الأحلام، وقرر أن يختلي بنفسه، يراجعها بحثا عما يمنح حياته ذاك المعنى الذي كان يتوق إليه. في النهاية لم يكن الدبلوماسي الكاتب محمد العلمي ينشد زعامة حزبية، ولا كان يمني نفسه بالترشح لانتخابات أو الحصول على امتيازات.
كانت تشغله أفكار لم يتمكن من بلورتها عبر مساره المهني في قلاع الدبلوماسية التي تبدو من الوهلة الأولى رحبة ومحفزة.. لكنها تخنق المبادرات. فكم من دبلوماسي انزوى إلى عالم الكتابة والشعر والتأمل، وكم من المنتسبين إليها صاروا تجارا ورجال أعمال ومضاربين في الحرير والذهب والجواهر والعقارات. إلا أنها مدرسة مثل كل الروافد التي تنتج النجاح والإخفاق. والأقرب إليها رفقة الكتب والانحناء أمام التاريخ، وإن تغيرت جغرافيته.
رأى ضمن ما يراه الرائي في خلوته، أن تأسيس حزب بهوية مغاربية يمكن أن يساعد في تقريب وجهات النظر المتباعدة. والتقيته، بعد الإعلان عن تأسيس «الاتحاد المغاربي»، فكان فرحا، تصور أن وقت الإفراج عن مشروعه الحزبي قد حان. كشف لي أنه أرسل مذكرة إلى الديوان الملكي، ضمنها كل المراحل التي قطعها حلمه الذي لم يتحقق أبدا. قال: إذا كانت المناسبة شرطا، فإن انبثاق الاتحاد المغاربي عنصر مساعد قد يشجع السلطات على الترخيص له بتأسيس حزبه المغاربي. ودعاني إلى زيارته في بيته في سلا قائلا: ستكون المناسبة سانحة للاطلاع على كل ما قام به في هذا المجال.
بعض الأحزاب تأتي على قدر الضرورات، كمشروع فكري وسياسي يستجيب لتطلعات مشروعة، وبعضها يستبق وقته أو ينزل إلى أرض الواقع بعد فوات الأوان. لكن المشروع المغاربي الذي استحوذ على فكر الكاتب السياسي محمد العلمي، كان مستوحى من تجارب تفاعلت وتضاريس انشغالات إقليمية. ولأن اتحاد كتاب المغرب مثلا انطلق برداء مغاربي، كما اتحادات نقابية ومهنية وطموحات سياسية، فقد انضم العلمي إلى قوائم الحالمين بقيام حزب ذي مرجعية مغاربية، يبدأ من المغرب الأقصى وسيكون له ما تيسر من الامتداد الأفقي والعمودي شرقا وجنوبا.
هكذا على الأقل فتن الدبلوماسي القلق بمشروعه الحزبي، يوم لم يكن للأحزاب أي قانون خاص ينظمها غير قانون الجمعيات والحريات العامة. وربما تناسى الدبلوماسي العلمي أن تشكيل الأحزاب في تلك الفترة لم يكن يخضع لاستيفاء شروط وإجراءات، وإنما تكفيه قرارات واستدراكات.
أحيانا تغلب السذاجة على العقول المنظمة والمنفتحة. ولم أعثر على شخص يحمل كافة مشاريعه في حقيبة يده، كما كان يفعل الكاتب محمد العلمي، بل إنه من فرط حماسه كان يستغل أي لحظة عابرة ليحكي عن مشاريعه ومحنه. يحضر اللقاءات الحزبية ولا يغيب عن التظاهرات الثقافية.. يبعث المذكرات إلى القيادات السياسية ولا يتوانى عن طرق كل الأبواب. فقد كان يمارس سياسة التبليغ مثل تمارين يومية، ولم يتعب من الوقوف كثيرا في قاعات الانتظار.
قال الرجل، بعد أن تعالت من صدره زفرة حسرة كان يخفيها وراء تحركاته التي لا تفتر، إنه لا يفهم السر وراء منعه من تأسيس حزب ذي برنامج مغاربي، مع أن الخطاب الرسمي والشعبي كان يركز على البعد المغاربي في التنمية وتقوية جانب المفاوضات مع الشركاء الأوروبيين وغيرهم. والظاهر أنه انسحب من المشهد حين فهم، أو له أن فهمه من قبيل الزيادة في الشيء، إذ تتحول إلى نقصان.
حين لم أعد أراه يقطع شارع محمد الخامس في الرباط، أو يتوقف عند ما بقي من مكتباته، أو لم يعد يراني على الأصح، أدركت أنه انسحب في هدوء الناسك إلى معبده، يقلب الصفحات التي كتبها من كل زواياها. وليست كل الكتابات تصلح لغير زمانها، إلا في نطاق تقديم الشهادات التي لا يعتريها النسيان.
بين تمارين متواصلة تنهك الاجساد لا العقول، ينتشي محمد العلمي، لما يصدر كتابا، يكون مؤلفه ومصححه وناشره وموزعه.. حتى إذا جال على المكتبات لاستخلاص ريع جهده الفكري، لا يبدي تذمرا من هزالة التعويضات، فالقراءة طبع وتطبع. لكنه لا يمل من مغامراته الفكرية، لأنه يعتبر الأمر رسالة يتعين الوفاء بها، خصوصا لدى إثارته قضايا وحقائق تاريخية ندر حياته للكشف عنها وتوثيقها.
لكن الرجل الذي كتب عن تاريخ حركة المقاومة في الأطلس، وعن البطل عبد الكريم الخطابي وعن الشهيد محمد الزرقطوني، آلمه أن المندوبية السامية للمقاومة لم تكلف نفسها عناء اقتناء نسخ قليلة من كتاباته في ملفات صون الذاكرة. وأسر لي ذات مساء أن أكثر ما فعله بعض الأشخاص المحسوبين على المقاومة أنهم سلموه مبالغ مالية هزيلة، وتمنى عليه أحدهم أن يراجع وزارة التعليم عسى أن تدرج بعض مؤلفاته التاريخية في مناهج التدريس. وعقب على ذلك بأنه لو كانت مناهج التعليم تشجع القراءة والكتابة وتفتح عيون الأجيال على تاريخهم، لما تطلب الأمر كل هذا العناء من أجل تسويق كتاب يوضع في الرفوف إلى حين ذبول أوراقه التي تتلون بالصفرة والغبار.
رحل الكاتب محمد العلمي في صمت. لم يكن قيد حياته يثير أي ضجة، وعندما كان يغضب أو يخنقه الإحساس بالحيف، يلوذ إلى كتاب أو سيجارة أو جلسة هادئة. يسرح ببصره، ويعد نفسه بأن يقدم كتابا جديدا عن قضية أو ملف تاريخي لم يحظ بالاهتمام. وقد أخذ قسطه من استراحة المحارب حين اعتزل في بيته رفقة صداقة الكتب الحميمية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى