الرأي

الأسماء والأفعال.. جدلية اللغة

وعلم آدم الأسماء كلها.
من هو آدم؟ متى عاش؟ هل كان ينطق؟ هل تشكل الإنسان الأول دفعة واحدة؟ أم على حلقات مثل تتابع الفيلم؟ ثم كيف يتم النطق؟ وما هي اللغة التي توحي بالمعنى؟
لإضاءة مثل هذه المسألة الكبرى علينا عرض هذه القصة؟
عام 1799 قبل أن ينتهي القرن الثامن عشر بسنة واحدة، استطاع بعض القرويين في فرنسا قريبا من غابة أفيرون، أن يلقوا القبض على حيوان غريب، شكله إنساني يدب على أربع، ولكن كل ما فيه يدل على أنه حيوان بهيم. وبعد قليل هرب الحيوان ـ الإنسان؛ فأخذ الناس يترصدونه على حين غفلة حتى أمسكوا به مجددا في العام اللاحق، وسلموه لطبيب يدعى إيتار كسبار. اشتهرت الحادثة و(الإنسان ـ الحيوان) باسم صبي غابة أفيرون الوحشي.
كان (الإنسان ـ الحيوان) صبيا يافعا قويا وحشيا، لا يكف عن الحركة، ولا يعرف القعود، ولا ينطق، ويخدش ويعض من يقترب منه.
هذا الكائن رأى فيه رجال الكهنوت نعمة الله على الإنسان أن جعل منه رجلا سويا (آدم)، أما دعاة الطبيعة مثل (جان جاك روسو) فقال إن العيش في الحضارة مفسدة عظيمة. انظروا إلى هذا الإنسان إنه مثال الوحشية والقوة ضد الطبيعة والبرد والمرض والضعف.
أما دعاة المدنية فرأوا في الحضارة تلك الطفرة التي تنقل الإنسان من درك البهيمية إلى مقعد الإنسانية، ولكن الدكتور إيتار ترك التعليقات والتحليلات لأصحابها. من أين جاء وكيف عاش وصمد؟ أمور لا علم لأحد بها، بل فضل أن يعمل على هذا الغلام حتى يدخله من جديد إلى مرتع الحضارة، واشتغل عليه طويلا؛ فنجح في أمور، وفشل في أخرى.
نجح في تعليم الطفل أن يجلس ويأكل ويلبس، وكف عن الحركة المستمرة ونظرات الوحشية والعض، ولكن الشيء الوحيد الذي فشل فيه مع كل الجهد المبذول كان في اللغة، فبقي الغلام عييا عن التعبير والنطق، باستثناء كلمات أقرب للببغاوات والقردة؛ ليصل إلى النتيجة الصاعقة التي تقول: إن الإنسان إذا لم يعيش في مجتمع في فترة الطفولة فإنه يخسر تعلم اللغة للأبد (في حدود السنوات السبع الأولى مع نسبة معكوسة مقابل مخطط الزمن).
هذه التجربة يمكن قراءتها بالتفصيل في كتاب (بنو الإنسان) لـ (بيتر فارب) من سلسلة عالم المعرفة، كما أن أحداثا مماثلة وقعت تشبه قصة صبي أفيرون الوحشي في الهند ومناطق أخرى يمكن تتبعها لمن شاء في جوجل أيضا.
وانطلاقا من هذه الواقعة تم إخراج مسلسل (ماوكلي) طفل الغابة وبالو الدب، في تقريب غير صحيح، لواقعة غير صحيحة، ولكنها جعلت تسلية للأطفال.
ومن هذه الواقعة أيضا نصل إلى الخرافة التي انتهى إليها الفيلسوف (ابن طفيل) في قصته عن (حي بن يقظان) أنه عاش لوحده ثم نطق واهتدى للغة وآمن بل وأنشأ فلسفته الخاصة به، وهذه خرابيط وترهات هي في ذهن الفيلسوف؛ أما الطبيعة فتكذب ذلك.
ولعل أفظع عقاب يعاقب به الإنسان هو ما فعله ماجلان مع الضابط الإسباني (تتارجيا) الذي عصاه في الرحلة وتمرد، فأنزله على شاطئ أمريكا الجنوبية. ومثلت هوليوود قصة شبيهة بذلك في فيلم كاست آوي (Cast away) مع الممثل توم هانكس، حين سقطت طائرته في عرض البحر، ونجا هو بقارب إلى شاطئ جزيرة لا يسكنها إنس ولا جان.
ويمكن أن نستوعب قصة مثل (روبنسون كروزو) لرجل عاش الحضارة وانقطع عنها محاولا الرجوع إليها مرة أخرى، ولكنه يجتمع ببشر شاركوه الحياة، ولجأ إليه (جمعة) ليعلمه لغة ريتشارد قلب الأسد.
قصة النطق أرقت الكثيرين في التاريخ فقد حاول الملك (فريدريك الثاني) ملك صقلية المستنير أن يعرف هل اللغة أمر بديهي، ينطقها الإنسان كما يسعل ويعطس ويتبول أم أنها أمر كسبي؟ فأتى بأطفال أعطاهم كل شيء باستثناء اللغة ليعرف هل سينطقون اللغة الأولى التي توقعها أن تكون لغة العهد القديم، ولكن النتيجة كانت كارثة فقد مات الأطفال مع توفر الغذاء.
واجتمعت يوما بالمفكر (محمد عنبر) صاحب كتاب (جدلية الحرف العربي) والتي حاول فيها أن يهتدي للغة الأولية التي تكلمها البشر قبل أن ينطقوا الصربية والصينية؛ فقال بزعمه إن الإنسان قلد أصوات الطبيعة فتشكلت اللغة، وكان الرجل رحمة الله عليه يقول لو استطعنا أن نصل إلى اللغة الأصلية لفهمنا مشاكل الجنس البشري، ثم اخترع شيئا عجيبا خلاصته أن كل كلمة هي في حركة ووسط، وأنها تنقلب في المعنى من البداية إلى النهاية، مثل بر ورب وجر ورج.
تمنيت منه أن يكون وصل لشيء ولا أظن، وهي نفس محاولة شحرور في فتح أقفال القرآن بمفتاح اللغة، فحرك عليه غضبا خاصة حين تحدث عن الشقوق والنهود.
ومما ينقل أيضا عن الفرعون (بسماتيك الثاني) أنه ربما كان الأول من حاول الاهتداء إلى اللغة الأولى، التي نطق بها البشر، ليصل إلى نفس نتيجة ملك صقلية فردريك، ولقد كتبت بحثا تفصيليا في هذا الموضوع تمنيت أن ينشر في كتاب، ولكن قاتل الله دور النشر وأصحابها فالصالح فيهم طالح.
وحين نقرأ بالآية القرآنية أن آدم كان يعرف الأسماء كلها فهو الترميز المجرد، وهو أمر كسبي ولا نعرف على وجه التحديد متى بدأ الإنسان في النطق وكيف؟ ولكن الشيء الأكيد الذي نعرفه هو أن الإنسان ـ كما في صبي أفيرون الوحشي ـ لن يتمكن من النطق بدون مجتمع يعيش فيه، ومنه نعرف أن المجتمع للإنسان هو الشرط الجوهري، كي يتحول من قطعة لحم إلى بشر يتكلم ويحسن التصرف، ويتعاون مع من حوله، في إدارة المجتمع وتوليد الحضارة؛ ولعل مرض (التوحد Autism) هو أحد تجليات التوقف الاجتماعي؛ فيعيش الطفل لوحده كما عاش يوما في الغابة.
علينا أن نفهم معنى النطق الذي تحدث عنه القرآن بيولوجيا واجتماعيا؛ وأن نعرف صفات ما نسميها اللغة خارج قواعد النحو والصرف. الشيء الأول أن لغات العالم جميعا متشابهة من الأسماء والأفعال والصفات وحروف الجر وما شابه؛ فتتحول بذلك إلى نظام مفتوح، يمكن أن يعبر بدون حدود، وهو ما بنت عليه البرمجة اللغوية العصبية وعلم اللسانيات أساساتها.
ومن الناحية البيولوجية كشف الطب عن تركيب الدماغ، وأن هناك ثلاث مناطق في الدماغ خاصة الأيسر في معظم الناس، في منطقتي (فيرنكيه) و(بروكا) واحدة مختصة بالقواعد، والثانية بالمرادفات، أي قاموس الكلمات، الذي يتشكل مع نمو الدماغ عند الطفل من خلال تشابك النورونات، التي تبلغ مائة مليار خلية عصبية، لها امتدادات كل واحد يزيد عن عشرة آلاف ساق ويد، كأنها أشعة النجم في قبة السماء.
وبين المنطقتين أي (بروكا) و(فيرنكيه) جسر ينقل الكلمات على شكل تتابع قاعدي، بحيث تتشكل الجملة على نحو سليم، ثم تنتقل من المنطقة الحركية في الفص الجداري، إلى قاعدة الدماغ، كيف تتصفى الكلمة؛ فتنطق على نحو سليم، هنا يتدخل جهاز النطق في نقل المعنى على أمواج فيزيائية، من قذف الهواء من الحلق والحبال الصوتية، ليصطك بالأسنان والشفة والأضراس والحلق واللسان، لينطق حروف ميم وفاء وصاد وراء وهكذا.
ليس هذا فقط بل بتتابع منتظم تؤلف الكلمات من حروف إلى جمل تحمل المعنى، فإذا سمع الآخر هذه الموجة، نقلها إلى الفص الدماغي عبر الأذن الوسطى وعظيمات السمع الثلاث (وزنها 55 مليغراما) ثم مرورا إلى الأذن الباطنية، حيث حلزون التيه، في ممرات مخيفة، لتنقل الشعيرات باهتزازاتها إلى الفص الصدغي في الدماغ، ليتلقى ترادف وتتابع الحروف والكلمات والجمل على شكل موجات؛ فيقلبها إلى معنى، ويأخذ نسخة إلى الذاكرة.
واللغة من الناحية البيولوجية هنا هي في الواقع ثلاث لغات من السيمائية بدون نطق من عبوس الوالدين أو ترحيبهما أو صعقهما للطفل بالصراخ، ثم يتعلم الطفل اللغة بالصوت وهي الطبقة الثانية، قبل الوصول إلى اللغة الكتابية التي هي أكثرها سطحية وغموضا وضعفا في الوصول إلى المعنى، ليفهم أن كلمة تعال تفيد الاقتراب، وأن يفهم أن كلمة عقرب أقل أذية من المخابرات، وأن يفهم أن الحاكم في العالم الثالث في الأنظمة الشمولية هو الرب المتحكم برقاب العباد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى