الرأي

الأعداء الحميمون للديموقراطية

لا حديث في فرنسا اليوم إلا عن الكتاب الذي أصدره نيكولا ساركوزي تزامنا مع إعلانه الترشح للانتخابات الرئاسية المزمع تنظيمها في فرنسا بعد أشهر قليلة، وهو بعنوان «Tout pour la France»، حيث خصصت للكتاب مساحات كبيرة في النقاش الإعلامي الفرنسي، سواء من حيث المضامين والتحليلات التي يتضمنها أو حتى من حيث شكله، لكون العنوان تم إخراجه بطريقة غريبة، وهي كتابة حرف «t» الثانية في كلمة «Tout» بالأحمر. وهي إشارة فهم منها كثيرون رغبة ساركوزي توظيف الهوية المسيحية لفرنسا، بالرغم من أن الكتاب يتضمن وعودا متطرفة جدا لفرض احترام المهاجرين لعلمانية الدولة، سواء في منح الجنسية أو الإقامة أو التعليم. لذلك من الطبيعي جدا أن يكون العرب، وخاصة المغاربة، معنيين بشكل مباشر بهذا المعطى الخطير وغير المسبوق.
فإذا وضعنا جانبا ما يتضمنه الكتاب من اقتراحات تهم قضايا داخلية فرنسا، والتي لا تهمنا هنا في المغرب، فإنه تضمن أفكارا لها علاقة مباشرة بوضع المغاربة في فرنسا، وهي أفكار لا يمكن الشك إطلاقا في كونها تجسيد لتوجه يميني عنصري واضح، أبان فيه ساركوزي مرة أخرى عن توجهاته السياسية التي تستلهم الكثير من أفكار اليمين المتطرف، ومنها مثلا فرض شروط أكثر تشددا في منح الجنسية، للتأكد من إيمان المهاجرين بالقيم العلمانية للجمهورية، حيث سترتفع المدة القانونية لمنحها من خمس سنوات المعمول بها حاليا إلى عشر سنوات، كما سيتم التوقيف النهائي للتجمعات العائلية. الكتاب أيضا يعد بحظر كل الرموز الدينية، ليس فقط في المدارس والجامعات كما كان عليه الحال الآن، بل وفي كل الأماكن العامة، الشواطئ والساحات العمومية والإدارات، كما سيتم وضع معايير جديدة في اختيار أئمة المساجد وإعطاء وزارة الداخلية الحق المطلق لطرد الأئمة المخالفين الذين لا يحترمون العلمانية وتجريدهم من جنسياتهم إن كانوا فرنسيين..، وتبقى أخطر فكرة تهم اتفاقية شينغن، وهي تقييد حرية الحركة داخل الاتحاد الأوروبي على الأوربيين من أصول غير أوروبية، وهي فكرة في حد ذاتها تنطوي على عنصرية واضحة، فالأجنبي الذي قضى عشر سنوات كاملة، وأجريت حوله أبحاث أمنية كثيرة للحصول على الجنسية، لن يكون له حق التمتع بنفس حقوق المواطن الفرنسي من أصول فرنسية.
إنه برنامج يميني متطرف، يستغل الحالة التي توجد عليها فرنسا اليوم مع تزايد الهواجس الأمنية ليستغلها بشكل واضح للعودة للإليزيه، وإلا ما معنى توظيف رمز الصليب من خلال حرف «t» للتذكير بالأصل الكاثوليكي لفرنسا؟ أليست هذه ردة حقيقية عن أفكار مؤسسي الجمهورية الخامسة؟ ما علاقة التذكير بالأصل الكاثوليكي بالأصل اليهودي لساركوزي نفسه، هل فعلا يؤمن بالصليب أم أنه يستغل هذا الرمز لأهداف انتخابية؟ ثم أليس التذكير بالأصل الكاثوليكي لفرنسا هو نفسه «حجة» إرهابيي داعش في الهجمات التي تعرضت لها سابقا؟ ألا يتحدث إرهابيو داعش عن «صليبية فرنسا»؟
المشكلة الكبرى التي يواجهها ملايين المغاربة القاطنين في فرنسا اليوم هي أنهم أمام قوتين متطرفتين ومتناقضتين، خطاب إرهابي يروج له بشر «يأكلون الغلة ويسبون الملة»، تُصور المسلمين هناك كمضطهدين، وطبعا كل هذا باسم «الحق في التعبير والحرية»، وخطاب عنصري مناقض لا يقل ترهيبا، يصر على استغلال الخوف الذي خلفته حوادث الإرهاب في أوروبا للوصول للسلطة بأي ثمن، مستغلا الحرية ذاتها، والنتيجة واحدة في الأخير، هي استغلال الديموقراطية للانقلاب عليها، واستغلال الحرية لاجتثاثها، وكم كان الفيلسوف الفرنسي المعاصر تودوروف مصيبا، عندما قال في كتابه الهام «الأعداء الحميمون للديمقراطية»، بأن الديموقراطية الغربية أضحت مريضة، وحذّر من أن التهديد الأساسي للغرب يكمن في التوجهات الجديدة التي تتزايد داخل المجتمع مثل كراهية الأجانب والنزعة الوطنية المفرطة والليبرالية المتوحشة. فالتهديد الحقيقي للغرب لم يعد يأتي من الخطر الخارجي، المتمثّل في الإرهاب الناجم عن التطرف الديني، أو وجود الأنظمة الديكتاتورية من فاشية وشيوعية، بل أصبح يكمن في مخاطر داخلية بما في ذلك تحوُّل الحرية إلى طغيان، أو في تحوُّل الرغبة في الدفاع عن التطور إلى روح صليبية، وخاصة ممن سماهم «الأبناء غير الشرعيين للديمقراطية»، ويقصد هنا بشكل مباشر اليمينيين، فهؤلاء ينسفون الديموقراطية من الداخل، لكونهم يدمرون جوهر الديموقراطية بالتركيز على الجزئيات لكن سيؤدون في الأخير لتدمير البناء الكلي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى