سري للغاية

الجابري نقلا عن بنبركة: «شتان بين من يريد بناء الاستقلال ومن يتخذ هذا الاستقلال وسيلة لبناء نفسه»

رابعا: التأجيل… بعد الاستقلال!

استمر تأجيل الديمقراطية كمبدأ استراتيجي لحزب الاستقلال في السنوات الأولى من حصول المغرب على استقلاله، وذلك لنفس السبب الذي شرحناه قبلا. لقد كان حزب الاستقلال يعتبر نفسه الحزب الوحيد الذي يمثل، إلى جانب الملك محمد الخامس، الشرعية الوطنية، باعتبار أنه الحزب الذي كافح من أجل الاستقلال ورجوع الملك الشرعي في وقت كانت فيه «الأطراف الأخرى» إما متحالفة أو متواطئة مع سلطات الاستعمار، وإما مهادنة لها، وإما بين بين. وبما أن فرنسا قد نجحت في فرض تلك الأطراف في مفاوضات إيكس ليبان وفي الحكومة الائتلافية التي أسفرت عنها تلك المفاوضات، فإن الخطأ الذي ارتكب في إيكس ليبان، والمغرب يعاني من وضعية «عهد الحماية»، يجب أن لا يتكرر في عهد الاستقلال، وبالتالي يجب أن لا تترجم الوضعية المؤقتة التي فرضت تلك الأطراف كشركاء في الحكومة إلى وضعية دائمة تمنح للأطراف نفسها حق تمثيل الشعب المغربي من خلال انتخابات تجريها حكومة فرضتها مفاوضات إيكس ليبان وإدارة ما تزال في معظمها كما كانت خلال عهد الحماية الفرنسية، يمسك بدواليبها من كانوا أعوانا أو مهادنين للسلطات الاستعمارية منفذين لأوامرها. من هنا كان تركيز قيادة الحزب على مطلبين اثنين: حكومة منسجمة من جهة، وتطهير الإدارة من المتعاونين مع سلطات الحماية الفرنسية، من جهة أخرى. ومما زكى هذا الاتجاه نحو تأجيل الديمقراطية قيام أحزاب بزعامة شخصيات معروفة بمواقفها «غير الوطنية» خلال عهد الحماية أو متورطة في سلسلة الحوادث والمحاولات التي كانت ترمي إلى «كسر شوكة حزب الاستقلال» منذ تأسيس الحكومة الأولى. إن الحملة التي شنتها هذه الأحزاب من أجل «الديمقراطية والحريات العامة» بزعامة أحمد رضا كديرة لم تكن لتخفى أهدافها ولا دوافعها على قيادة حزب الاستقلال. وقد كانت من نتائج تلك الحملة أن كان رد فعل هذه القيادة هو التمييز بين «ديمقراطية» يراد بها تجنيد الشعب من أجل استكمال التحرير وبناء الاستقلال، و«ديمقراطية» يراد بها تشتيت شمل القوى الوطنية لصالح الإبقاء على الوضعية شبه الاستعمارية التي ورثها المغرب من الحماية الفرنسية.

نقرأ هذا النوع من رد الفعل بوضوح في المحاضرة التي ألقاها الشهيد المهدي بنبركة، عضو اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال في مسيري فرع الحزب بالدار البيضاء في أبريل 1958 شرح فيها أسباب ونتائج الأزمة الوزارية التي أدت إليها استقالة الوزراء الاستقلاليين من حكومة البكاي الثانية. ومما ورد في هذه المحاضرة قول الشهيد: «…فأخذت تتعارض الوسائل والطرق وحتى الأهداف بين الائتلاف (الحكومي) المصطنع، لأننا في الوقت الذي كنا نتجه كلية نحو البناء والتشييد ووضع الأسس المتينة لذلك، كان غيرنا يسعى في بناء نفسه وإقامة هيكل مكبر لشخصيته، وشتان بين من يريد بناء الاستقلال ومن يتخذ هذا الاستقلال وسيلة لبناء نفسه»، ويضيف: «وفي الوقت الذي اشتغلت طائفة في تخطيط أو تنفيذ المشاريع الكبرى للنهوض بالبلاد كانت الطائفة الأخرى تشتغل بتكوين الهيئات والأحزاب المصطنعة… فالمعركة معركة دقيقة ينتظر الشعب من ورائها أداة لتحقيق الأهداف الوطنية، وهذه المعركة هي التي سميتها أزمة المغرب. أما الذين يريدون أن يسموها «معركة الحرية» فهذا تضليل. والاستعمار الذي لا يريد أن ينهض المغرب ويتبوأ المكان اللائق به سعى إلى وسيلة يشغل بها الوطن، وذلك بخلق نوع من التهافت على أشكال الانتخابات والتشدق بالديمقراطية، وحزب الاستقلال كان أول من عذب في سبيل الحرية وفقد أعز أبنائه وأصدقائه في معركته، ولذلك فهو لا يريد أن يأتي أولئك الذين كانوا يتفرجون على المعركة ليتبجحوا اليوم بالحديث عن الحرية. إننا نريد إقرار نظام ديمقراطي في المغرب ولا ننتظر أن يأتي أذناب الاستعمار لمطالبتنا بذلك.. وأؤكد لكم أن المناورات الموجودة في المغرب والحركة التي قامت حولها من أجل «الحريات» المزعومة إنما هي من دسائس الاستعمار».

وفي «حديث مرتجل» مع مسيري حزب الاستقلال بتطوان بتاريخ 21 يوليوز 1958 نشر بعنوان «نحو مجتمع جديد» حدد الشهيد المهدي، بأسلوب أميل إلى التنظير، شروط النهضة والتقدم لكل شعب، ومنها الاختيار الديمقراطي، الذي أكد على ارتباطه الجدلي مع وجود أداة حكومية وطنية فعالة وإقرار اختيارات اقتصادية في صالح الجماهير الشعبية.

خامسا: تأجيل الديمقراطية داخل الحزب !

ذلك هو الإطار الذي كان يضع فيه حزب الاستقلال مسألة الديمقراطية، قبل الحماية وأثناء السنوات الثلاث الأولى من الاستقلال. وإن كاتب هذه السطور ليتذكر بوضوح كامل أنه كان مقتنعا بهذا النوع من الطرح (وربما يوجد اليوم من هو مقتنع به بالنسبة لمغرب اليوم !)، وأن اقتناعه كان يندرج في اقتناع الوطنيين المغاربة يومئذ، خصوصا من كان منهم منتميا بشكل من أشكال الانتماء إلى حزب الاستقلال. ولا بد من القول إن تجربة الانتخابات في مصر على عهد الملك فاروق حيث كانت الأحزاب المصرية تسعى لكسب أصوات الناخبين بطرق غير مشروعة، كان لها أثر كبير في هذا النوع من الموقف من ديمقراطية الانتخابات التي تشترى فيها الأصوات. وكان مثال «الانتخابات المصرية» يتردد بكثرة في صفوف الوطنيين. غير أن تأجيل الديمقراطية بالنسبة للوضع الذي كان قائما في المغرب ككل، سواء أثناء الحماية أو خلال السنوات الثلاث الأولى من الاستقلال، إذا كان يجد التبرير الكافي في أولوية القضية الوطنية في ذلك الوقت، فإن تأجيل الديمقراطية داخل الحزب نفسه لم يكن يقبل التبرير إلا في وعي بعض الشخصيات في قيادة الحزب، خاصة منها تلك التي تنتمي إلى الجيل الأول.

لقد تأسس حزب الاستقلال في ظروف القمع الاستعماري، فكان تأسيسه جزءا من العمل الوطني السري، فلم تكن هناك انتخابات في فروع الحزب ولا مؤتمر عام…إلخ، وبقي الحزب كذلك إلى أن تمت الدعوة على عجل لمؤتمر استثنائي دجنبر 1955 من أجل المصادقة على قرار الحزب القاضي بالمشاركة في حكومة ائتلافية لا يرأسها حزب الاستقلال، تكون مهمتها التفاوض مع فرنسا حول الاستقلال. ولم يكن واردا قط في هذا المؤتمر تجديد القيادة أو إضافة أعضاء إليها، ولا جعلها موضع السؤال، مع أن تركيبة الحزب كانت قد تغيرت تماما انطلاقا من سنة 1952، إذ في جوفه تأسست نقابات وقامت المقاومة، وظهر جيل جديد من الشباب المناضل في صفوفه، الشيء الذي جعل مسألة الديمقراطية داخل الحزب تطرح نفسها بإلحاح مباشرة بعد الاستقلال. وقد زاد من حدتها مفاوضات إيكس ليبان وما أسفرت عنه من نتائج لم تكن لترضي لا المقاومة ولا التنظيمات النقابية ولا شباب الحزب. ومن هنا وقوع الحزب في أزمة داخلية، لم تنفع معها الحلول الترقيعية. لقد كانت بحق أزمة غياب للديمقراطية داخل الحزب. وهي أزمة كانت ترتبط بعملية تأجيل الديمقراطية في المجتمع بعلاقات جدلية، علاقة تبادل التأثير.

لقد كان الفرنسيون يقولون ويكررون القول، خلال عهد الحماية، بأن حزب الاستقلال هو «حزب المدن»، وأن نشاطه لا يمتد إلى البوادي. وهذا حق وإن أريد به باطل. لقد نشأ حزب الاستقلال فعلا من اندماج جماعات وطنية تشكلت في الثلاثينيات في كل من سلا وفاس والرباط، فكان يعبر في ذلك الوقت عن وعي نخبة من الشباب واعية: بعض أعضائها مرتبطين بالثقافة العربية الإسلامية وحركة النهضة في المشرق العربي، وبعضهم مرتبط بالثقافة الفرنسية وبالفكر الليبرالي أو اليساري الأوروبي، ولم تكن هناك قطيعة ولا هوة بين الطرفين، بل كان هناك اتصال وتواصل. ولقد كان من الطبيعي أن تتشكل قيادة حزب الاستقلال عند تأسيسه عام 1944 من هذه النخبة، خصوصا وقد وقفت سلطات الحماية سدا منيعا في وجه امتداد الحركة الوطنية منذ قيامها في أوائل الثلاثينيات إلى القرى والجبال والبوادي، إلا ما كان من تحركات وارتباطات سرية. وهكذا لم يبرز في قيادة حزب الاستقلال طوال الفترة الفاصلة بين تأسيسه وأوائل الاستقلال أية شخصية خارج الرباط وسلا وفاس وإلى حد ما مراكش. فكان الحزب بالنظر إلى تركيب قيادته لا يمثل إلا المدن، على الرغم من وجود عناصر من القرى والبادية في سلك «المفتشين» الذين كانوا موظفين للحزب ينقلون تعليمات اللجنة التنفيذية إلى القواعد، لقد كانوا بمثابة عمال الأقاليم في جهاز الدولة. وإذن فلم يكن الجهاز الحزبي يمثل المغرب كله، ولا الاستقلاليين كلهم، ولم تكن جماهير البادية مؤطرة التأطير الكافي كما أنها لم تكن تجد نفسها ـ أعني من يمثلها ـ في اللجنة التنفيذية. ومن هنا تلك الظاهرة التي شرحناها سابقا والتي تتمثل في كون جماهير حزب الاستقلال كانت أكثر الناس انتقادا لحزب الاستقلال بمجرد عودة محمد الخامس.

هذه المعطيات هي التي كانت تقف، في العمق، وراء لجوء قيادة الحزب إلى تأجيل الديمقراطية، سواء على الصعيد السياسي العام أو على الصعيد الحزبي الخاص، وهو التأجيل الذي كان لا بد أن يؤدي إلى أزمة داخل الحزب، أزمة كانت تؤسس وتعكس في آن واحد أزمة الديمقراطية على مستوى الحكم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى