سري للغاية

الجابري: «هكذا دافع الزعيم علال الفاسي عن بقاء السلطة التشريعية بيد الملك محمد الخامس»

عندما كشف النقاب عن كون برنامج إصلاحات جوان قد جرى التفاوض عليه مع «بعض الوطنيين المعتدلين» (حزب الشورى والاستقلال بزعامة محمد بلحسن الوزاني)، وأنه نتيجة هذا التفاوض نص البرنامج بشأن الدستور على أن «يعهد إلى مجلس وطني يمثل الرأي العام المغربي بوضع دستور يصبح، في دائرة ملكية ديمقراطية، القانون الأساسي للمغرب المتمتع بحريته واستقلاله، ويتولى الدستور المغربي الجديد تنظيم السلطات وفصل بعضها عن بعض وتحقيق المساواة بين المغاربة والحريات»، عندما كشف النقاب عن ذلك بادر الزعيم علال إلى رفض هذا المشروع. لقد حلل بنوده واحدا واحدا ورد عليها، وكان مما قاله بخصوص مسألة الدستور ما يلي: «أما الدستور في حد ذاته فهو من مطامح حزب الاستقلال ومطالبه الأساسية التي تقدم بها إلى جلالة الملك في وثيقته التاريخية يوم 11 يناير 1944. ولكن الدستور في نظر الحزب تابع للاستقلال، يأتي بعده لا قبله، لأن الدستور مظهر من مظاهر سلطة الأمة ورقابتها على حكومتها، وهذا يتنافى مع الاحتلال الأجنبي ولا يتفق مع طبيعته». ثم يضيف متسائلا: «على أن طلب الدستور في هذه المذكرة قضاء على فكرة الاستقلال، إذ كيف نطلب من الدولة المحتلة وضع دستور نطبقه نحن في زمن الاستقلال».

ثانيا: بقاء السلطة التشريعية بيد الملك ضمان لحقوق المغرب

وفضلا عن ذلك كان حزب الاستقلال يرى أن أية انتخابات أو مظاهر ديمقراطية تمثيلية تقيمها إدارة الحماية لابد أن تهدف منها إلى انتزاع جزء من الشرعية من الملك محمد الخامس وإعطائها لأشخاص تنصبهم إدارة الحماية أو تؤثر فيهم وبإمكانها أن تستبدلهم حسب حاجتها. هذا ما أكده الزعيم علال بقوله: «إن في بقاء السلطة التشريعية بيد جلالة الملك ضمانا لحقوق المغرب حتى لا يستطيع أحد أن يعبث بها… ومقامه مكين لا يمكن التهجم عليه… بخلاف الحكومة فلو بلغت من الوطنية ما بلغت فمن السهل على الإدارة الفرنسية استبدالها في كل حين بحكومة غيرها، وقد تكون هذه الحكومة الثانية ضعيفة أو خائنة».

لقد كان الاستقلال بالنسبة لحزب الاستقلال هو «الكل في الكل»: الاستقلال أولا، والديمقراطية بعده، لا قبله. وعندما برز محمد الخامس أمام أنظار الجميع على رأس الحركة الوطنية يطالب بالاستقلال في خطب العرش، وسافر إلى باريس للقيام بمحاولات مع الحكومة الفرنسية في هذا الشأن، أصبح هو نفسه رمزا للاستقلال وتجسيدا للنضال من أجله. ومن هنا تركزت دعاية حزب الاستقلال على الملك محمد الخامس، حتى إذا عزل ونفي صار رجوعه أولى الأوليات: محمد الخامس أولا، والاستقلال ثانيا، ثم الديمقراطية بعد ذلك.

4 ـ من هنا يجب أن ننظر إلى المرة الرابعة التي تم فيها تأجيل الديمقراطية، والتي تتمثل في رفض الوفد الاستقلالي المفاوض في إيكس ليبان، برئاسة الراحل عبد بوعبيد/ رفضه ذلك الاقتراح الفرنسي الذي يقضي باعتراف فرنسا باستقلال المغرب أولا وتكوين حكومة وطنية تشرف على وضع دستور، تليه انتخابات ديمقراطية لبرلمان مغربي يكون من مهامه اتخاذ قرار بعودة محمد الخامس. وحينئذ ستكون عودته في ظروف يقبلها الرأي العام الفرنسي…إلخ. إن رفض الوفد المفاوض لهذا الاقتراح، وكان على رأسه الراحل عبد الرحيم والشهيد المهدي، كان موقفا ينسجم على طول الخط مع موقف حزب الاستقلال المنطلق من مبدأ «الاستقلال أولا…». وهو المبدأ الذي أصبح الموقف الذي لا يرضى الشعب المغربي، ولا قواه المكافحة وعلى رأسها المقاومة وجيش التحرير، عنه بديلا. إنه ليست الديمقراطية وحدها هي التي تم تأجيلها هذه المرة، بل طال التأجيل الاستقلال نفسه، وصارت عودة محمد الخامس أولى الأوليات.

5 ـ والمرة الخامسة التي أجلت فيها الديمقراطية، كان التأجيل فيها مضاعفا: كانت هذه المرة بعد عودة محمد الخامس مباشرة، وذلك حينما وجد حزب الاستقلال نفسه أمام قرار صعب لأول مرة: المشاركة في حكومة ائتلافية تضم أطرافا ليسوا في مستواه النضالي من أجل الاستقلال وعودة محمد الخامس، ويرأسها شخص من غير حزب الاستقلال ! لقد اتخذ الحزب قراره في الاجتماع الذي عقدته لجنته التنفيذية، وكلفت الراحل عبد الرحيم بنقله إلى المؤتمر الاستثنائي الذي دعا إليه الحزب لهذا الغرض. هنا كان تأجيل الديمقراطية مضاعفا: أولا، عندما لم تسند مهمة تشكيل الحكومة إلى حزب الأغلبية الذي هو حزب الاستقلال نفسه، تحت إكراهات الموقف الفرنسي وشروطه، وثانيا عندما قررت اللجنة التنفيذية تجريد رئيس هذه الحكومة الائتلافية المفروض من جانب المفاوض الفرنسي من أية مسؤولية، وإسناد جميع السلطات إلى الملك محمد الخامس وفاقا مع ما قرره الزعيم علال من قبل من «أن في بقاء السلطة التشريعية بيد الملك ضمانا لحقوق المغرب حتى لا يستطيع أحد أن يعبث بها…إلخ. وإذن فموقف المرحوم عبد الرحيم والشهيد المهدي في مفاوضات «إيكس ليبان» من جهة، وفي المؤتمر الاستثنائي للحزب من جهة أخرى، كان استمرارا لنفس الموقف الذي عبر عنه زعيم الحزب وتبنته اللجنة التنفيذية كلها: موقف التأجيل.

على أن «التأجيل: لم يكن مبدأ، لا في فكر الزعيم ولا في فكر أعضاء اللجنة التنفيذية، وإنما كان موقفا استراتيجيا الهدف منه قطع الطريق أمام الفرنسيين في محاولاتهم إضفاء «الشرعية الديمقراطية» المزورة على أطماعهم الاستعمارية، كالتوطين وغيره. أما من الناحية المبدئية فالديمقراطية في فكر علال الفاسي والشهيد المهدي والمرحوم عبد الرحيم كانت حاضرة حضور مطلب الاستقلال نفسه. بل أكثر من ذلك كان هؤلاء يرون أن غياب الديمقراطية كان من الأسباب الأساسية للتدخلات الأجنبية التي نالت من استقلال المغرب سواء قبل الحماية أو بعدها.

ثالثا: علال: ملكية دستورية على غرار الإنجليز…

وللزعيم علال الفاسي عبارات صريحة وقوية في هذا الشأن، فقد ورد في كتابه «النقد الذاتي» ما يلي: قال: «إن من أسباب كل ما جرى في وطننا من اضطرابات (قبل الحماية الفرنسية) راجع إلى كون الملك مسؤولا مباشرة أمام الشعب، وذلك ما أحدث في بلادنا كثيرا من الثورات التي كان يمكن الاحتراز منها لو أن الوزارة المغربية أخذت صيغتها الديمقراطية فبدأت تتحمل هي مسؤولية أعمالها». ويقول: «ونحن نعتقد أن المسؤولية الوزارية خير حل للمشاكل التي تعرض لأنظمة الحكم، وهي ضرورية لكل الحكومات سواء كانت ملكية كما هي بلادنا أو جمهورية مثل فرنسا وغيرها. إن الحكم يجب أن يكون مبنيا على أساس الاشتراك المقبول بين الأمة ورؤسائها. وبهذا وحده يتم تحقيق الحق ومعارضته للقوة، لأن الحق معناه إلجام القوة عن طريق العقل، فهو بذلك سلطة أخلاقية تعارض السلطة الجسمية. ثم يضيف: «فحق الأمة في أن تحكم نفسها بنفسها يتفق تماما مع حقها في أن تختار من تنيبه في تسيير شؤونها، ومن حقها كذلك في الاستقرار الحكومي والتمتع بالنخوة الوطنية والشعور بالرضى عن الأشخاص الذين يمثلونها. وكل هذه الحيثيات، إلى جانب ما قدمناه، تصل بنا إلى نقطة واحدة هي ضرورة المراقبة الشعبية لأعمال القائمين بالحكم وهذه المراقبة حق لكل مواطن ذكر كان أو أنثى.

وفي موضوع الدستور يقول: نحن لا نريد أن «نحاول فرض نوع من أشكال الدساتير على الأمة المغربية، لأن ذلك لا يمكن أن يقوم به فرد خاص، بل لابد أن يقع بعد الاستقلال من تجمع شعبي منتخب. لكن يمكننا أن نعتبر أنفسنا منذ الآن في الاتجاه الملكي الدستوري، وذلك ما يفرض علينا الالتفات إلى الذين سبقونا في هذا المضمار وهم الإنجليز.. ولا بد أن نعير التفاتا مهما إلى بلاد الديمقراطيات الشعبية وما قامت به من أعمال… يجب أن نستفيد من كل التجارب الإنسانية، إذ ليس في الدنيا نظام باطل كله ولا حق كله».
ذلك ما كتبه الزعيم علال الفاسي قبل الاستقلال. أما موقفه بعد الاستقلال فهو يختلف تماما، خصوصا عندما تجند لتأييد الدستور الممنوح في استفتاء 18 نونبر 1962.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى