شوف تشوف

الرئيسية

السنة النبوية في المذهب الحنفي 2/2

إلياس بلكا

بالنسبة لأبي حنيفة، فتارة يأخذ بالحديث وتارة بالأصول:
الحالة الأولى- تقديم الحديث، مثل حديث: أمر النبي عليه السلام من ضحك في صلاته بإعادة الوضوء والصلاة. والقياس أنه لا علاقة للقهقهة بالوضوء، فليست من مبطلاته، لأن المبطلات أساسا ما خرج من المخرجين، بينما الضحك يبطل الصلاة فعلا لأنه ليس من أعمالها. لكن أبا حنيفة رضي الله عنه ترك هذا القياس وأخذ بالحديث.
ومن الأمثلة أيضا حديث أبي هريرة في عدم إفطار من أكل أو شرب ناسيا. فالقياس أن صيامه بطل وعليه الإعادة، لكن الإمام تركه للحديث.
الحالة الثانية – تقديم الأصل أو القاعدة: فلم يأخذ أبو حنيفة بحديث: رخّص الرسول عليه السلام في العرايا. أي شراء التمر، وهو في النخل، والاكتفاء بتقدير كميته بالتخمين والخرص. إذ رأى الحنفية أن هذا من الأموال الربوية التي لا تكون إلا بتبادل كامل وفوري كما في الحديث المتفق عليه: يدا بيد، مثلا بمثل، سواء بسواء. لذلك يجب قطف التمر أولا من الشجر، ثم وزنه بالمكاييل وبيع.
والأصول والقواعد كثيرة، وهي كل ما ثبت من القرآن أو السنة أو القياس القوي. وصار دليلا مستقلا بذاته لقوته واتساع تطبيقاته وشمول آثاره. ومن أمثلة القواعد: رفع الحرج في الدين. وسد الذرائع. وفردانية التكليف والمحاسبة (ولا تزر وازرة وزر أخرى) والمثلية في التعويض والغرم بالغنم.
القياس أنواع: منه ضعيف ومنه قوي جدا يرجع إلى الأصول
والحقيقة أنه توجد أقيسة تعتمد على أصول عامة أُخذت من أحكام شرعية كثيرة، أي تضافرت عليها أدلة متعددة. وهنا من الصعب ترك هذا القياس الذي يكاد يكون قطعيا بسبب خبر الواحد الظني.
إن أبا حنيفة يقدم خبر الثقة العدل الفقيه في جميع الحالات تقريبا. وإذا ترك بعض الأحاديث فلمخالفتها القرآن أو السنة المشهورة أو ما يستنبط منهما من القواعد الكبيرة. فأبو حنيفة يرى أن القاعدة إذا ثبتت بظواهر القرآن وعموماته، وبأحاديث كثيرة ومتنوعة. فإنه لا يمكن خرقها بحديث أسنده راو غير فقيه. بينما يرى فقهاء الأثر أن هذا الحديث الذي يعارض القواعد والأصول يكون استثناء منها، فالقاعدة ثابتة عندهم لكننا عرفنا من الحديث الوارد أن لها استثناءات. في حين يعتبر الحنفية أنه إذا ثبتت القاعدة بأدلتها الشرعية فإننا نعمل بها إلا إذا جاء دليل قوي على وجود استثناء ما، ولا يمكن هذا بأيّ خبر مهما كان حاله، بل بخبر قوي كخبر الثقة الضابط الفقيه. فلا يرفع حكم القاعدة القوية إلا خبر قوي أيضا.
هكذا يظهر أن الإمام الأعظم لم يكن يقدم القياس المستنبط -لأنه ظني واجتهادي- على خبر الآحاد، وإذا لم يطمئن لأحد الرواة فإنه يتوقف في خبره، وإنما يقدم عليه القياس القوي الواضح والذي شهدت له أدلة قوية من الكتاب والسنة.
ومن آراء الأحناف أيضا ذات الصلة بما نحن فيه: أنهم لا يرون أن أحاديث الآحاد يمكن أن ترتفع إلى درجة معارضة عموم القرآن، بحيث يمكن أن تخصصه. إذ التخصيص عندهم يقارب النسخ في رتبته، إن لم يكن نوعا منه. فإذا خصصوا القرآن بالحديث يكون هذا عندهم نوعا من النسخ، والقرآن لا يُنسخ بخبر الواحد. وقبلوا أن يخصِّص الحديث المشهور القرآنَ لقوته.
والحاصل أن أبا حنيفة لا يرد خبر الآحاد إذا شهد له أصل قطعي، بل يرده إذا كان شاذا لا يتفق مع أي أصل من الأصول القطعية.
هل هذا النوع من فقه السنة الشريفة -والذي يشكل مدرسة قائمة بنفسها نحتاج اليوم إلى دراستها واستنطاقها من جديد- بدع من العلم، خاصة في مجال الحديث النبوي؟ الجواب لا، في الحقيقة هذه مدرسة من مدارس الصحابة رضوان الله عليهم في التعامل مع السنة. يكفي أن نرجع إلى أحد أعلامهم في الموضوع: عائشة أم المؤمنين. ليس بمعنى أن الرؤية الحنفية استمرار أو تطبيق حرفي لفقه عائشة، بل بمعنى أن الحنفية أخذوا بمدرسة التعامل مع روح السنة قبل ألفاظها، وهي مدرسة جمهور الصحابة، ومنهم عائشة رضي الله عنها.
وأخيرا المطلوب منّـا إنجاز دراسات معمقة لمواقف الفقهاء الكبار من السنة وكيفية التعامل معها، كإمامنا مالك رضي الله عنه. هذا مهم جدا. وبعض هذه الدراسات تمّ، وبعضها ينتظر جهود الباحثين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى