شوف تشوف

الرأي

السياسة تأبى الفراغ

يقال إن الطبيعة لا تقبل الفراغ، هذا القول يمكن أن ينسحب حتى على السياسة، فهي وكما علمنا التاريخ بدورها تأبى الفراغ. والفراغ الذي لا تقبله السياسة هو أن تتوقف آلة الصراع بين المهيمن والمهيمن عليه. كل طرف يلجأ إلى الأدوات والاستراتيجيات والترسانة العسكرية المتاحة من أجل الاستمرار، سواء كان هو القوي المستبد، أو الضعيف المتمرد.
القوي يعرف أن دوام الحال من المحال وأن جدلية التاريخ دائما تصر على التغيير، لذلك يحاول المستبد أن يستمر أطول مدة ممكنة هو المهيمن على منطقة نفوذه، سواء كانت محلية، أو حتى عالمية. ولكي يستمر في بسط نفوذه فهو لا يستسيغ أن يستمر جالسا على عرش سلطته والسلام المطلق يحوم حوله، لأن الهدوء الآمن غالبا ما يكون سوى الصمت السابق على انطلاق إعصار العاصفة. ما العمل إذن؟ لا بد من إيجاد خصم توجه الأنظار لمواجهته، وإذا لم يكن هناك عدو فيجب خلقه لتستقيم الأمور، ولا يبقى الفراغ السياسي سرمديا، لأن الثنائية الجدلية كما أسلفنا لا تستقيم دون صراع. هذا الكلام في تقديرنا هو ما يحكم الصراع العالمي ضد الإرهاب. فالدول الغنية والقوية وعلى رأسها الولايات المتحدة، كانت وما زالت في حاجة ماسة إلى عدو يحقق لها البقاء سيدة العالم. كان الاتحاد السوفياتي في القرن السابق وبأيديولوجيته الشيوعية هو ما يشكل خطرا على وجودها. وللتمكن من غزو العالم ووضع خرائط للمستقبل حسب المقاسات التي تراها مناسبة، أوعزت للعالم على حد قول محمود درويش الاعتقاد بأن الشيوعية هي الطاعون، والطاعون هو الاتحاد السوفياتي. ولتواجه هذا الخطر الذي تريد من العالم أن ينظر إليه على أنه خطر وبيل كذلك حتى يعم الخوف ويسطر على الجميع، كان عليها أن تجد من يقوم بالحرب بالوكالة عنها، لأنها تعرف أن لا مصلحة لها في مواجهة الاتحاد السوفياتي عسكريا، هي الخارجة على التو من حرب عالمية ضروس تعرف جيدا حصـيلة التكلفة المادية والبشرية التي تطلبتها.
لم يكن أمام أمريكا سوى أن تخلق تنظيما تزوده بالعدة والعتاد، وتكلفه بمواجهة هذا الخطر الذي يهدد الجميع. وقد واتتها الفرصة حين تدخل الروس في أفغانستان ليجدوا تنظيم طالبان، النسخة الأمريكية للإسلام الموجهة ضد خطر الشيوعية في انتظارهم. القارئ يعرف طبعا ما الذي حصل فقد تم كسر شوكة السوفيات في باكستان، بزعامة طالبان، الذين سيحتضنون خلال هذه الحرب الضروس تنظيم القاعدة كفاعل حاسم في الانتصار ضد الروس. وحين تحقق الانتصار للولايات المتحدة تنكرت هذه الأخيرة لزعيم القاعدة، أسامة بن لادن، وليقوم هذا الأخير برد الاعتبار لكرامته المجروحة قام، وحسب مزاعم الولايات المتحدة، بهجوم 11 سبتمبر الشهير، الذي أودى بحياة آلاف الأبرياء لا ذنب لهم سوى أنهم ذهبوا ضحية السياسة التي لا تقبل الفراغ.
اندحر خطر السوفيات، وسادت الهيمنة للولايات المتحدة، لكن ما أصبح يؤرق مضجعها هو أن الفراغ عاد ليشكل خطرا على القطب الواحد. وبما أنه لم تعد هناك قوة عسكرية نظامية منافسة وتشكل خطرا على رجال البيت الأبيض فقد قدم الإرهاب خدمة جليلة إليهم، إذ أصبح البطل المثالي الكفيل بملء الفراغ الذي تحتاجه أقوى دول العالم. القاعدة التي لعبت دورها كممثل للإرهاب بامتياز في العالم، وتمكنت من زرع ثقافة الخوف، وجعلت العالم المتقدم في حالة حرب ضد شبح مخيف ينتشر في جسد السلم العالمي كما ينتشر الداء الوبيل في الجسم السليم. هذا التنظيم يبدو أنه فقد المرتبة الأولى في تصنيف الإرهاب العالمي لصالح تنظيم آخر يتهم الغرب في ظروف نشأته، وأعني به التنظيم الإرهابي المعروف اختصارا بـ«داعش». لقد تمكن الإرهاب بصيغته الجديدة مع دولة الإسلام في العراق والشام أن يملأ الفراغ السياسي القائم على نشر ثقافة الرعب بشكل متميز، وقد وجد هذا التنظيم في الأزمة السورية وهشاشة الوضع السياسي بالعراق مجالا خصبا ليفرض وجوده ويتقوى، بحيث أصبح أول تنظيم إرهابي يملك أرضا يحارب منها الغزاة والكفرة، على حد زعم رؤساء هذا التنظيم.
العالم يعيش اليوم حالة من الرهاب لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية، وثقافة الخوف هي صناعة مروجة حاليا بامتياز، لأنها تملأ الفراغ السياسي كما أسلفنا. لكن صناع هذه التجارة يحملون الدول التي تعاني من نير الفقر والاستبداد مسؤولية ما يقع في العالم. إنهم يتجاهلون أنهم في الحقيقة يحصدون ما زرعته أيديهم ليحافظوا على امتيازاتهم. هذه الامتيازات التي يشدون عليها بالأيدي والنواجذ، حتى ولو كان تشبثهم بها يأتي على حساب سلامة أبناء شعوبهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى