الرئيسية

الصدقة من القليل

أحمد الراقي

الحديث الرابع والستون بعد المائة الثانية (264)

عن أَبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: «لَيْسَ المِسْكِينُ الذي تَرُدُّهُ التَّمْرةُ وَالتَّمْرتَانِ، ولا اللُّقْمةُ واللُّقْمتانِ، إِنَّمَا المِسْكِينُ الذي يتَعَفَّفُ» متفقٌ عليه. وفي رواية «لَيْسَ المِسْكِينُ الذي يطُوفُ علَى النَّاسِ تَرُدُّهُ اللُّقْمةُ واللُّقْمتَان، وَالتَّمْرةُ وَالتَّمْرتَانِ، ولَكِنَّ المِسْكِينَ الذي لا يَجِدُ غِنًى يُغنْيِه، وَلا يُفْطَنُ بِهِ فيُتصدَّقَ عَلَيهِ، وَلا يَقُومُ فَيسْأَلَ النَّاسَ».

أول ما يتبادر إلى الذهن عند تأمل حديث اليوم هو السؤال عن دلالة المسكين في اللغة، ودلالته في الحديث النبوي وعند الفقهاء، فالمسكين من السكون، يقول القرطبي «وكأنه من قلة يده سكنت حركاته فهو لا يملك ما يجعله كثير الحركة والأسفار». ومن دلائل هذا السكون والمسكنة أنه لا يجد غنى يغنيه، ولعدم حركته في السؤال والإعلان عن نفسه لا يفطن له فيتصدق عليه وهو لا يتقدم ولا يبادر بالسؤال وهو من الذين وصفهم الله في قوله سبحانه: (لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) وقال (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) وهو لا يطوف على الناس حيث يعطفون عليه باللقمة واللقمتين أو التمرة والتمرتين، أما الفقير فهو يجتمع مع المسكين في دائرة واحدة وهي الحاجة، ولكن المسكين أشد فقرا من غيره وهو يتسم بالتعفف، والفقير هو الذي يملك أقل من النصاب، أو يملك نصابا غير تام يستغرق حاجته وبالمقابل المسكين فهو الذي لا يملك شيئا.
إن مما يستنبط من الحديث أهمية التصدق بالشيء اليسير، حيث ورد قوله صلى الله عليه وسلم «ترده التمرة والتمرتان» وقد حث صلى الله عليه وسلم بالتصدق بأيسر الأشياء «لا يتصدق أحد بتمرة من كسب طيب إلا أخذها الله بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل أو أعظم». الفلو هو المهر المفطوم، وفي حديث عدي بن حاتم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اتقوا النار ولو بشق تمرة، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخلت امرأة معها ابنتان لها تسأل فلم تجد عندي شيئا غير تمرة فأعطيتها إياها فقسمتها بين ابنتيها ولم تأكل منها ثم قامت فخرجت فدخل النبي صلى الله عليه وسلم علينا فأخبرته فقال من ابتلي من هذه البنات بشيء كن له سترا من النار). والصدقة بشق التمرة دليل على أنها سبب للوقاية من النار ولو كانت قليلة، وشق التمرة هو نصفها أو جانبها، وهو قليل جدا، ولكنه عند الله تعالى عظيم إذا قدمه صاحبه مخلصا فيه، بحيث ينجيه الله به من النار، ويستوجب له به الجنة.
كان الصحابة رضي الله عنهم يفقهون نصوص البذل والعطاء والإحسان، فيجودون بما في أيديهم، قليلا كان أم كثيرا؛ لعلمهم أن الله تعالى ينمي لهم القليل حتى يصبح كثيرا، ولعلمهم أن الله تعالى يعاملهم بحسب ما أعطاهم، ولعلمهم أن الله تعالى يجازيهم بمثقال الذرة «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ».
كثير من الناس يحتقر قليل الصدقة فلا يبذله، فيستحيي أن يمد للفقير درهما، ويخجل أن يقدم شيئا من طعام، أو قطعة من لباس أو أثاث. وكم منع قلة ما بيد الواحد من الإنفاق.. وكم من عازم على الصدقة نظر في محفظته فلم يجد إلا قليلا من مال فأحجم عن الصدقة، وكم بقي للواحد من غذائه وعشائه فاستقل أن يطعم به أحدا. مع أن اللقمة الواحدة تكسر حدة الجوع.
وفي الأثر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ندب الصحابة إلى الصدقة لسد حاجة الفقراء وقال لهم «تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ، مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ ثَوْبِهِ، مِنْ صَاعِ بُرِّهِ، مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ – حَتَّى قَالَ – وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» فتتابعوا على الصدقة، كل واحد منهم بما عنده حتى اجتمع من قليل صدقتهم كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ.
ومما يستفاد من الحديث فضل التعفف في حياة المؤمن وصيانة كرامته حيث أشار الحديث «إنما المسكين الذي يتعفف» وقد بين النبي فضل التعفف عن المسألة، فعن ثوبان رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من تكفل لي أن لا يسأل الناس شيئا أتكفل له بالجنة. فقلت: أنا.. فكان لا يسأل أحدا شيئا. قال الشيخ الألباني رحمه الله: صحيح.
وقد كرم الله تعالى الإنسان، وسؤال المخلوق فيه مذلة، وعلى الإنسان أن يطلب من الله أن يعطيه من فضله، قال الله تعالى: (واسألوا الله من فضله). والفضل لله يؤتيه من يشاء، وقد أمر الله عباده أن يسألوه من فضله؛ فالطلب من الله عبادة، وفضله واسع، وعطاؤه لا ينفد، كما أمر عباده بالسعي في الأرض، طلبا للرزق، متوكلين عليه في مسعاهم. فمن كان فقيرا؛حاول أن يوجد لنفسه مصدرا للرزق، بدلا من أن يكون عالة يتكفف الناس، أعطوه أو منعوه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى