الرئيسية

العلمُ والعالمُ الفارغُ من الحِكم!

لماذا الكتابة في شرح الحِكم؟ وما الذي تستطيع أن تقوم به الحِكمُ وشرحها لعالم حزين، قطّعت فيه أمعاء الضعفاء ورميت على الرصيف، عالم لا يُسمع فيه إلا صوت الرشاوي والخيانات والجهالات والفارغين محتوىً ومضموناً، أو بمعنى آخر: ما الذي تستطيع أن تقدمه «حكمة صوفية» في عالم يسوده الظلام؟
الجواب عن كل التساؤلات السابقة يكون بداية من منطلق أن الحكمة هي معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، لذلك يقال لمن يحسنُ دقائق الصّناعات ويتقنها: حكيم، بمعنى يمتلك قدرة على تحقيق العلم وإتقانه. ومن عجائب لسان العرب أنه من الحكمة ينبثق الحكمُ الذي هو العلم والفقه والقضاءُ العدلُ، وإلا كيف يحكمُ جاهل، وكيف يصيب رأياً سديداً وهو لا يتقن فنون الإنسان! قال تعالى: «وآتيناه الحكم صبياً»، الآية، أي علمناه علماً وفقهاً، هذا ليحيى بن زكرياء.
كما أنّ الحكمة في الكتاب العزيز هبة إلهية، تمنحُ للعباد «يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيرا وما يذَّكر إلا أولو الألبابً» الآية. وهو الذي «علم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم»، فرفعه إلى أعلى عليين بالعلم والمعرفة. وهو الذي أظهر الأشياء ليعرف بها، ولا نعرفه إلا به، وإلا انقلبت كل حقائق الوجود وهماً أو ظلاماً.. أو ما بين ذلك.
بعلمه تفجرت ينابيع الحكمة من قلوب العالمين العارفين، وعقول الفلاسفة المتأملين في كتاب الوجود، فانفلقت أنوار اهتدت بها بصيرة الحائرين القلقين، «لكن الإنسان ليطغى»، كما كان «أكثر شيء جدلا»، فكان قدره (السؤال) بحثاً عن الحقيقة.
والحكمة هي سرّ الكون ومفتاحه، من عرفها وفهم دقائقها طويت له المسافات الطوال بين المحبة والكراهية، بين الحرب والسلم، بين الجهل والعلم، بين الفشل والنجاح. وهذا العالم الطافح بالعدوانية لا يمكن أن يعود إلى رشده إلا بالحكمة، وليس بالعلم فقط.. لأن العلم أحياناً يفسدُ علينا إنسانيتنا، وأنظر إلى تقدمنا العلمي ستجد حروباً صغيرة هنا وهناك من إنتاجه؛ فالأمراض الفتاكة التي أصبحت كلّ يوم تزداد شراسة وتدميراً للإنسان بسبب هذا الذي نسميه «التقدم العلمي»، وهو الذي رفع من نسبة الظلم الاجتماعي في كل مكان، وإليك الشركات العابرة للقارات، والاحتباس الحراري وصناعة الأسلحة بما فيها القنبلة النووية، والتسابق نحو التسلح لماذا؟ لأن العلم يسير بلا حكمة تعقله!
إن العلماء اليوم يلعبون دوراً سيئا ولا إنسانياً عندما يفكرون بعيداً عن حكمة الوجود. ويبدو أن القليل من العلماء اليوم من يرون «مستقبل الإنجازات العلمية» أو «مستقبل التقدم العلمي» بعيون السلام، فيصير من حقنا اليوم أن نعيد طرح السؤال الذي طرحناه من قبل: ما مصير السلام في عالم متغير؟ فجرى هذا السؤال كالنار في الهشيم دون الإحالة إلى مصدره.. لا يهمّ فبعض الكتاب أيضاً يكتبون بلا حكمة!
ولا بأس من تأكيد أنّ العلوم التي تنتج أجمل الآثار لا يجب أن تفاجئنا، يقول الفيلسوف الفرنسي جون بودريار، إذا ما أنتجت بالمقابل الجراثيم الأشد فتكا. وإن ثقافتنا (العلمية) لا تشع الأجساد فقط (وهو المسار الذي بدأ مع هيروشيما) ولكن أيضا، وبشكل متواصل، وسائط الاتصال والدلائل والبرامج والشبكات.
والحرب المعاصرة لم تعد حربا عسكرية تقليدية، بل هي حرب رقمية- افتراضية ونفسية أيضا، بل إن الخطير عندما تستعمل الحرب كل أشكالها وأنواعها وتمزج بين ما هو واقعي وافتراضي– رمزي ونفسي. هنا يمكن أن نطرح سؤالنا الأساسي: ما مصير الحكمة في عالمنا العلمي المعاصر ؟
يعترف الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، في كتابه «مشروع السلام الدائم»، بأن السلام فكرة لا تتحقق، لأن المطلق لا ينتقل إلى عالم التجربة، لفقدان التجانس بين العالمين. غير أن هذا لا يمنع من أن تكون هذه الفكرة مثل فكرة الفضيلة، بمثابة «مبدأ أسمى» وقاعدة يسترشد بها في العمل.
وأخطر ما يمكن أن يفقده الإنسان هو السلام الداخلي، بل إنّ السلام العالمي لا يمكن تحقيقه إن لم يسبقه تحقق السلام الداخلي، «والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم».
لذلك كان هذا العالم في حاجة إلى الحكمة قبل العلم وقبل كل شيء، فكل الأمور إذا نظرنا إليها بعيون الحكمة سارت كما يراد لها.. آه.. كم هي عميقة وعظيمة هذه الكلمة «حكمة» معرفة لأفضل الأشياء بأفضل العلوم! نلتقي غداً مع أوّل حكمة..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى