شوف تشوف

الرأي

الفوالق الطبقية (2-2)

في رواية (هوجو) عن أحدب نوتردام يعمد الملك إلى أخذ الفتوى في اقتحام الكنيسة ولو لمرة واحدة. يذهب خاشعا متضرعا إلى مريم العذراء، أنه لن يعيد الكرة بعد اليوم بعد أن أفتاه بعض خصومه السياسيين المحبوسين ـ بلا نهاية ـ أنه يمكن أن يخرق حرمة الكنيسة.
هنا يتركنا الفيلم في مشاهدة مروعة للمحبوسين وهم يستعطفون الملك أن يطلق سراحهم فقد تعفنت عظامهم. ينحني الملك باتجاه مريم العذراء في تقوى متصنعة ويصلب على صدره ثم يتوجه لممارسة الجريمة في اقتحام الكنيسة، ويتوجه للمعتقلين قائلا ليس ثمة أفضل من العزلة في تعلم الحكمة.
ينتهي الفيلم بدراما ثلاثية، شنق أزميرالدا، ورمي الأحدب كاهنه الذي كان في خدمته من علو سقف الكنيسة إلى الأرض ومعها نهايته. أما أعظم منظر في الفيلم فهو تلك الأمانة وذلك الحب الخالص الذي يمارسه هذا الأحدب المشوه. إنه يبحث عن الفتاة التي أنقذها لفترة وجيزة من حبل المشنقة. يبحث عنها في مقبرة المدينة حيث كانت تلقى أجساد المحكومين بالإعدام من المساكين، الذين نالهم القانون ظلما وعدوانا لأنهم ضعفاء؛ فيبحث هائما على وجهه حتى يرى جسد (أزميرالدا) ملقى على الأرض بكل جمالها بدون روح فيعانقها حتى الموت؛ فإذا لم تجمعهم الحياة فليكن الموت هو الجامع؛ بين انزلاق الكاهن مع شهادة الزور، وبين عبث الضابط، وحب من طرف واحد، سواء من أزميرالدا للضابط الأرستقراطي أو من الأحدب للراقصة، بين كل هذه التناقضات يصمد الحب الفعلي حتى لحظة الموت.
يقول الروائي فيكتور هوجو في النهاية أنه وبعد سنوات طويلة عثر من زار المقبرة على هيكلين عظميين متعانقين بغرابة؛ فلما أرادوا فكهما عن بعضهما استحالا إلى تراب.
أذكر أنا أيضا من مجلة دير شبيجل حيث تعرض في صفحاتها النهائية أخبار الموتى أو عجائب ما يعثرون عليه في المقابر أو غرائب الإعلانات الصحفية والمشاهدات الطريفة. عرضوا صورة لهيكلين متعانقين في الموت. فهل هي قصة الأحدب مكررة من جديد عن الحب الذي لا يقهره الموت؟
أعود إلى صاحبي الغول البلومبي (السمكري) لقد ذكرني مكان إقامته بهذا الاسترسال الطويل من رواية أحدب نوتردام.
إن الفوالق الطبقية هي مكان الزلازل الاجتماعية، والقرآن يختصر الكوارث في ثلاث اتجاهات إما أن يرسل علينا حاصبا من السماء من فوق، عذابا من فوقكم، أو من تحت أرجلكم، أو الثالثة وهي الأخطر، يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض. انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون.
وحين يستعرض القرآن بنية المجتمع الفرعوني يبدأها بقصة موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون؛ فيقول إن المجتمع الفرعوني يعاني من فوالق طبقية. إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا.
أن يكون الناس جميعا فقراء أمر سيء ولكنه تطور في رحلة المجتمع، ولكن تمتع البعض بالثروة مقابل شقاء الأكثرية خطر منذر بتفلق المجتمع وانفجاره في المستقبل، وهنا تتكون أعشاش داعش كما في جحور الجرذان وأعشاش الصراصير وأوكار الخفافيش؛ فيلحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو كارثة أو عذاب أليم.
في القرآن أيضا يؤكد أن الاستقامة الاجتماعية نهايتها رفاهية: ولو أن استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا. وعن أهل الكتاب لو أنهم حققوا العدل لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم. منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون.
(آل غور) السياسي الأمريكي كتب عن المتغيرات الستة في التاريخ البشري (سلسلة عالم المعرفة) فذكر أن الخطر محيق بأمريكا فهناك 400 ملياردير يملكون أكثر من 150 مليون أمريكي. وهي نفس الفكرة التي ناقشها (ويل ديورانت) في كتابه (دروس التاريخ) عن انهيار روما على يد الطبقة الأوليجاريك (الأقلية) (فالمساواة النسبية عند الأمريكيين قبل عام 1776م طغى عليها ألف شكل من أشكال التفاضل الجسماني والعقلي والاقتصادي بحيث أن الفجوة بين الأغنى والأفقر تعد اليوم أكبر من أي وقت مضى منذ أيام حكم الأغنياء في روما الإمبراطورية.
وقد يصل التركيز في المجتمعات التقدمية إلى نقطة تنافس فيها قوة عدد الكثرة الفقيرة قوة القدرة في القلة الغنية، وعند ذلك يولد التوازن غير المستقر موقفا حرجا، واجهه التاريخ بطرق متعددة عن طريق التشريع الذي يعيد توزيع الثروة، أو الثورة التي تعيد توزيع الفقر).
وحين أرى أيضا مناظر من هذا النوع في بلد عربي أفهم لماذا يتفجر سخطا وغضبا وهيجانا لينتهي بتدمير بنية البلد كما حصل في سوريا، وأعرف ذلك جيدا فأنا ولدت في ذلك البلد الذي حلت عليه لعنة الله والملائكة بسبب الانهيار الطبقي. لقد وصل الأمر في سوريا إلى درجة من الفساد والتحلل أن يرتطم بجدار التاريخ فيتشظى كما هو في أي حادث مروري مريع خالف قوانين المرور وإمكانيات العربة ومعها حماقة السائق وغفلة الراكب.
أصل في النهاية إلى قانون صولون ويمكن قراءته في موسوعة التاريخ في قصة الحضارة لويل ديورانت أو كتابه عن دروس التاريخ فيقول في فصل الاقتصاد والتاريخ أن الانشقاق الطبقي إذا وصل إلى الحافة الحرجة قاد إلى الثورة العنيفة ما لم يتم امتصاصه بالإصلاح ويجب أن يكون جذريا وسريعا. فإن حصل ذلك تم توزيع الثروة بالإكراه، وإلا فإن الثورة تفكك المجتمع وتعيد توزيع الفقر بالإكراه.
جاء في كتاب دروس التاريخ ص 111 ما يلي ( لقد حدث في أثينا عام 594 ق . م كما يروي بلوتارك أن تفاوت الثروة بين الأغنياء والفقراء وصل إلى ذروته بحيث بدت المدينة في حالة خطرة، ولم يكن في الإمكان اتخاذ أية وسيلة أخرى لتخليصها من الاضطرابات سوى السلطة المستبدة ـ قارن مع قتل المتظاهرين بالرصاص الحي في سوريا ونسفهم بصواريخ سكود والبراميل المتفجرة وقاذفات سوخوي؟ـ فقد وجد الفقراء أن حالهم تسوء سنة بعد سنة، والحكم في أيدي سادتهم، والمحاكم الفاسدة تحكم في كل قضية ضدهم فبدؤوا يتحدثون عن الثورة العنيفة. أما الأغنياء الذين أغضبهم تحدى ملكيتهم فقد تهيؤوا للدفاع عن أنفسهم باستخدام القوة. ثم ساد العقل السليم فكفلت العناصر المعتدلة انتخاب صولون، وهو تاجر من أصل ارستقراطي. فصار الحاكم الأعلى، وقام بتخفيض العملة، وبذلك خفف عبء جميع المدينين مع أنه هو نفسه كان من الدائنين، ثم خفض جميع الديون الشخصية، وأبطل عقوبة السجن المفروضة على عدم تسديد الدين، وألغى متأخرات الضرائب والفائدة على الرهن، وفرض ضريبة تصاعدية على الدخل بحيث جعل الأغنياء يدفعون بمعدل 12 اثني عشر ضعفا لما يستحق على الفقراء، ونظم المحاكم على أساس أكثر شعبية، ورتب تربية أبناء شهداء الحرب من أجل أثينا وتعليمهم على نفقة الحكومة، واحتج الأغنياء لأن هذه الإجراءات مصادرة صريحة لأموالهم. وشكا المتطرفون من أنه لم يعد تقسيم الأرض، ولكن الجميع سلموا خلال جيل واحد بأن إصلاحاته أنقذت أثينا من الثورة).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى