دين و فكر

اللجوء إلى «أبو أيمن» 23

بدأ «الحمقى» يرددون أقاويل لا يفهمون أبعادها.. وأنا لا أفهم ما يجري حولي كالأطرش يوم الزفة.. إنها الحياة البئيسة في الكاريان.. لا أحد يسمع الآخر.. ولا أحد يفهم شيئا.. باستثناء «أبو أيمن» و«القايد» وربما «المقدم».. هؤلاء وحدهم من يمسكون بخيوط هذه المهزلة.. أين «أبو أيمن»؟.. انتظرته طويلا ولم يعد بعدُ من وسط المدينة.. هو من سينقذني من هذه الورطة لا محالة..
حكت له والدته «لالة فطومة» القصة كاملة بغثّها وسمينها.. أحجمت عن الذهاب هذا اليوم إلى المسجد.. صلى «أبو أيمن» العشاء.. انتظرته على أحر من الجمر أمام المنزل.. وعدني بأنه في صباح اليوم الموالي سيتحدث معي في الأمر.. فتركني بت الليلة كـ«المعلقة» لا هي تزوجت، فبلغت منيتها ولا هي طلقت، فبحثت لها عن زوج آخر.. قاطعني كل من في الدار.. فوجدت في الفراش ملاذا آمنا.. استأنست كالعادة بعمي «براهيم» وزوجته «لالة خديجة» وهما يستمتعان بفراشهما الدافئ.. كأن لا شيء هام في هذه الحياة غير لهو الجسد.. تذكرت ليلتها ما حصل لوالدي مع الدرك الملكي ومع وكيل الملك ومع القاضي، الذي أصدر حكمه الجائر باسم الملك.. تأكدت أني جئت إلى الكاريان لأتحدى مصيرا غامضا ومريبا..
لم أذهب لصلاة الفجر.. نادى علي «أبو أيمن» مباشرة بعد أن صلى في المسجد.. ذهبنا معا إلى مقهى متواضع في أطراف الكاريان.. لم تفارقه ابتسامته المعهودة.. طلب مني أن أحكي له بالتفصيل لقائي مع رجل السلطة.. أحاول أن أصور له خطورة ما جرى وهو يحاول أن يهون من الأمر، بالرغم من أنه هو من تسبب لي في المحنة بسبب فتواه حول تحريم قراءة القرآن جماعة.. المفيد في محادثتي مع «أبو أيمن» هو أنه شرح لي ملابسات الحدث.. ومما قال لي هذا «الإسلامي»:
ـ طبيعي جدا أن يتهمك «القايد» بأنك «شيعي»، فهو يحاول أن يردعك عن الاستمرار في تدينك.. فهذه من حيل «النظام» لكي لا ينتشر الإسلام في هذا البلد.. فهو ليس من مصلحته أن يقبل الناس على دين الله، وأن يتبعوا سنة نبيه، لأنهم سيلاحظون مدى بعد «أولي الأمر» عن الصراط المستقيم.. سيخشى هؤلاء من المحاسبة في الدنيا.. أما عقاب الآخرة، فهو في انتظارهم ولا هروب لهم من ذلك.. تأكد يا أخي أن الإسلام سينتشر في بلادنا.. وسنحكم إن شاء الله بشريعته.. لكن لا بد من التضحية والصبر لبلوغ هذا الهدف العظيم..
قاطعته متسائلا (نشرب الشاي في هذه اللحظة):
ـ لم أفهم معنى «الشيعة».. ولا أعرف من هو «الخميني»..
أجاب «أبو أيمن» وقد انتهى من شرب الشاي، وبدأت أشعة الشمس تتسلل رويدا إلى داخل المقهى الخشبي (لاحظت أن شخصا يجلس على مقربة من صاحب المقهى يحصي حركاتنا بشكل مريب):
ـ الشيعة هم من ناصروا «عليا» كرم الله وجهه في صراعه مع معاوية الأموي.. واستمروا في مشايعته حتى بعد استشهاده.. تشكل مذهب عقائدي وفكري وفقهي على إثر ذلك.. أما أهل «السنة والجماعة» ـ ونحن منهم ـ فقد بقينا على سنة النبي المصطفى.. واتبعنا أثر السلف الصالح إلى يومنا هذا…
قاطعته مرة أخرى:
ـ فهل معنى ذلك أنهم ليسوا على شيء؟؟
ـ لا يا أخي.. هم مسلمون مثلنا إلا أنهم زاغوا كثيرا عن سنة الرسول الكريم.. ولولا ضيق الوقت وأنه علي الذهاب لشرحت لك أكثر الفرق بين أهل السنة والشيعة.. سأزودك بكتب كثيرة تفيدك في هذا المجال…
سألت «أبو أيمن» عن «الخميني» فأجابني بسرعة وهو يستعد للذهاب، وقد استوت الشمس كاملة في الأفق:
ـ الخميني من علماء الشيعة الكبار.. قاد ثورة كبيرة ضد ملك إيران ويسمى عندهم «الشاه».. استطاع أن يزيل الطاغية من السلطة ويقيم حكما «إسلاميا».. لكن كما قلت لك على أساس مذهب الشيعة.. وما زال الوقت أمامنا لأحكي لك عن كل شيء ترغب في معرفته.. المهم الآن هو أن تستمر في سيرك إلى الله.. وأن تجتهد في أداء فرائضك.. وأن تتعلم أمور دينك.. ولا تهتم بما يقوله السفهاء من الناس من أمثال «الفقيه البودالي».. فهو ومن على شاكلته يسلطهم «القايد» لمحاربة «الملتزمين».. نحن لا يزيدنا ذلك إلا إصرارا على إقامة الدين في هذا البلد بحول الله..
كلام «أبو أيمن» هدَّأ من روعي.. وأذهب عني الحزن الذي عشته البارحة.. وزاد من حماستي.. افترقنا وكلي شوق إلى معرفة المزيد عن الشيعة والخميني وأهل السنة والجماعة وإيران والإسلاميين والإخوان المسلمين والبدعة… وكل شيء.. فإن كان للحركة الإسلامية بعض الحسنات، فهي أنها فتحت شهيتي للتعلم والقراءة.. حتى أني أصبحت كالمجنون ألتهم كل ما أجده أمامي من أوراق.. فـ«لَحَسْتُ» الغث والسمين.. وكنت كحاطب بليل..
أحسست بالضعف أمام «القايد» وزبانيته.. فقرأت بعد ذلك كل شيء عثرت عليه عن مذهب آل البيت.. تعرفت إلى أبناء فاطمة الزهراء.. عرفت أعداءهم.. ألممت بعقائد أشياعهم ونحلهم وبعض من فقههم.. ثم قرأت سيرة «الخميني» ووصاياه.. إلى درجة أن «أبو أيمن» كان يخشى علي من «التشيع».. كان لا يتركني لحظة في تلك الفترة.. ويسألني عن قراءاتي «العشوائية».. يتدخل في الوقت المناسب لتنبيهي إلى بعض «شطحاتي» الفكرية.. الأهم في كل هذا أني أضحيت أعرف عن الشيعة أكثر من «القايد» و«البودالي».. وحتى من أبي أيمن نفسه..
ما حدث لي مع «الفقهاء» ولقائي مع «القايد» أثرا بشكل عميق في نفسي.. اصطدمت بهاتين العقبتين في أول طريقي نحو التدين.. ذقت مكر «الفقيه بوشتى» في البادية عندما قضيت وقتا عنده في الزاوية.. واستمر الفقيه «البودالي» في الافتراء علي ومحاربتي بكل الطرق.. سلط «القايد» المقدم «شقيفة» لتتبع كل حركاتي داخل الكاريان.. والفقيه «البودالي» لمراقبتي داخل المسجد.. هذه الأحداث المتسارعة جعلتني أنضج بسرعة من الناحية الفكرية.. ودفعتني إلى الإصرار على التمسك بالدين.. فهو وسيلتي الوحيدة لمحاربة «الفقهاء» ورجال «المخزن» معا..
اجتهد «أبو أيمن» في أن يجعلني «إسلاميا».. أبدع في أن ينقش شخصيتي حسب مقاسه.. ساعدته في ذلك على كل حال.. وجد عندي قابلية للتشكل.. انتبه إلى أني أحمل شحنة كبيرة من التمرد.. وحدثته أكثر من مرة أن «الوزير» هو السبب في هجرتنا إلى المدينة.. وأن ما نعيشه من فقر في الكاريان سببه بيع والدي أرض أجداده بثمن بسيط.. وأزَّم من نفسيتي ما رأيته من خيانة النساء عند «الخياط».. والذي آلمني أكثر هو حياة الدعارة التي تعيشها «حليمة» مكرهة.. فتاة في غاية الحسن والأدب تبيع جسدها لتعيل أسرة بكاملها.. أريد أن أنقذها من جحيم الحياة.. لكن كيف؟
نلت شهرة داخل الكاريان بسبب معركتي الأخيرة مع «البودالي».. ولقائي بـ«القايد».. برَّأني الناس من تهمة «التشيع»، فهم يعلمون أني «عروبي» ولا علاقة لي بـ«الخميني» ولا بأصحابه.. واظبت من جديد على الصلاة لكن دون قراءة القرآن مع «الفقهاء».. بدأت أتشدد يوما عن يوم في الدين.. لقد أعارني «أبو أيمن» كتاب «معالم في الطريق» للسيد قطب.. كنت أقرأه أكثر مما أقرأ القرآن (لجهالتي).. كان هذا الكتاب الأكثر تداولا في فترة من الفترات عند الإسلاميين في الخارج وداخل الوطن.. حجمه صغير إلا أنه كان في وقت ما بمثابة دستور لكل «حركي»..
عندما أنتهي من قراءة كتاب يزودني «الأخ» بآخر.. ازدادت طلباتي أكثر على كتب «قطب».. لَحَسْتُها كلها (العبارة سمعتها من فريد الأنصاري رحمه الله).. أول ما ترسخ في ذهني من خلال هذه القراءات «العشوائية» هو أن الكاريان يعيش في «جاهلية» ظلماء.. وأن «الزنا طمَّ.. والربا عمَّ».. وأن كل شرور الدنيا حلت بنا.. اقتنعت تماما أننا نعيش جاهلية ثانية.. خصوصا عندما قرأت كتاب «جاهلية القرن العشرين» لمحمد قطب.. بدأت أستشعر بعثة دينية جديدة ستحيي الإسلام من جديد.. بدا لي ذلك وشيكا.. بل كلمح البصر أو هو أقرب..
رسخ «سيد قطب» في ذهني فكرة تغيير الأنظمة الحاكمة.. كيف؟؟؟ هل يمكن أن نطيح بـ«المخزن» أيضا.. أعدت مرارا نظرية «قطب» في الإطاحة بحكم «جمال عبد الناصر».. فكان جزاء «قطب» في الأخير الإعدام.. أعدت مشهد إعدامه أكثر من مرة في ذهني.. أخيرا وجدت ضالتي في هذه الحياة.. إنه وحده «العمل الحركي» القادر على تغيير أوضاع الأمة.. تجاوز تفكيري الكاريان.. حلقت في هذه المرحلة بعيدا في سماء الأحلام..
بدأت أعيش فعلا «مفاصلة» بيني وبين الواقع.. عبث «قطب» بعقلي.. شعرت أني أسمو يوما عن يوم فوق الجميع وأني أنتمي إلى فئة «الأعلون».. أسير وسط الكاريان رافعا هامتي إلى السماء.. فلا أرى إلا أطفالا صغار يمشون بجانبي.. أرى أناسا خدعتهم الحياة.. يلعبون ويضحكون كما في «الظلال».. وأنا وحدي أملك الحقيقة المطلقة.. بت أشعر بالتفوق على أخي «محمد» ووالدي و«الخياط» و«عبد الرزاق» و«لالة خديجة» و«حسن» و«البودالي» و«شقيفة».. حتى «القايد» شعرت بأني أقوى منه.. كل شيء أصبح ممكنا بفضل «قطب»..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى