شوف تشوف

الما فالرملة

كشفت الاحتجاجات الأخيرة في الريف عن نوع جديد من الزعماء، ففي السابق كان متزعمو الاحتجاجات قادة سياسيين ونقابيين ومثقفين خريجي جامعات كبرى، واليوم ظهر على الساحة صنف جديد من الزعماء بالكاد لديهم شهادة الباكالوريا، وكل «سوابقهم» في الحياة العمل في أبواب الحانات كفيدورات، مثل ناصر الزفزافي الذي بمجرد ما يستيقظ من النوم يضع أمامه هاتفه ويشرع في شتم وسب البشر والشجر والحجر.
فقد بدأ بشعارات تطالب بأشياء مشروعة قبل أن تلعب الشهرة معه فانتهى لا يستطيع أن يركب جملة دون أن يشتم فيها شخصا بالنجاسة أو يتهم جهة بالعمالة والخيانة.
إن هذا التحول في الزعامات عادي بالنظر إلى انحدار العمل السياسي عموما في المغرب وصعود الشعبويين، خصوصا خلال الخمس سنوات الأخيرة لحكم بنكيران، حيث أصبح المعيار الأول للزعامة هو المعارضة الحنجرية وتخوين الخصوم وشتم الدولة وتبخيس مؤسساتها، وآخرهم شباط الذي أصبح يتهم الدولة بمحاولة اغتياله. إلى حد أصبحت معه الدولة تهان من داخلها وخارجها، وأبرز مثال على الإهانة الداخلية للدولة ما كتبه وزير حقوق الإنسان الرميد منتقدا أداء جهاز الأمن ورئيسه بعدما طبق الأمن القانون ومنع شباط من عقد المؤتمر الاستثنائي للاتحاد العام للشغالين في نسخته الشباطية.
وفي الدول الديمقراطية فالوزير إما أن يغلق فمه وإما أن يستقيل، لكن الرميد يريد عسل الدولة وفي الوقت نفسه يريد معارضتها.
لكن أخطر ما كشفت عنه الاحتجاجات التي يعرفها الريف والعديد من مناطق المغرب هو عجز وفشل الجماعات المحلية عن القيام بالأدوار المنوطة بها، والتي من المفروض أن تستجيب لحاجيات ومطالب السكان، فأغلب رؤساء الجماعات والمنتخبين يتجاهلون المواطن بمجرد نجاحهم في الانتخابات، ويتملصون من نهج سياسة القرب التي يجب عليهم ممارستها لاحتواء أي فعل احتجاجي، هذا دون الحديث عن غياب الأحزاب السياسية في ممارسة دورها في تأطير المواطنين.
والأغلبية الساحقة للمستشارين في المجالس الحضرية منفصلة عن قضايا المواطنين اليومية، فميزانية التسيير تتعرض للنهب، والمستشفيات تفتقر إلى مجرد سيارة إسعاف فيما رئيس الجماعة «يتفطح» في سيارة فاخرة سمحت له الداخلية بشرائها.
وقد رأينا كيف تفرغ الشوباني وإخوانه، بمجرد الحصول على مقود تسيير أفقر جهة في المغرب، لإنشاء الشركات الفلاحية واقتناء السيارات الفارهة عوض العمل على انتشال الجهة من الفقر.
إن أغلب الاحتجاجات التي تشهدها المدن والقرى تكون في البداية بسبب مطالب اجتماعية بسيطة، فاحتجاجات الباعة المتجولين داخل المدن والحواضر الكبرى، تتأجج بسبب الفوضى التي تعرفها هذه المدن وعدم قدرة الجماعات على توفير فضاءات خاصة وعجزها عن تنظيم المجال الحضري في إطار اختصاصات الشرطة الإدارية، أما الاحتجاجات في القرى فتكون بسبب العزلة التي تعرفها بعض المناطق جراء تدهور البنية التحتية أو غياب المسالك الطرقية والماء الصالح للشرب أو بعض المرافق الاجتماعية البسيطة.
إذن فالجماعات المحلية هي أصل مشاكل كل المغرب وسبب الاحتقان الاجتماعي الذي تعرفه جهاته اليوم، رغم أن الإطار القانوني والتنظيمي المؤطر لعملها بالاستناد إلى توجهات الدستور الجديد، خول لها صلاحيات واسعة.
ولتحقيق ذلك، تعتمد الجماعات الترابية في تمويل المشاريع على ميزانياتها الخاصة، أما إذا كانت المشاريع تفوق إمكانياتها المادية فإنها تلجأ إلى عقد شراكات في ما بينها أو مع الدولة أو الهيئات العمومية وكذا مع القطاع الخاص، كما تناط بالجماعة داخل دائرتها الترابية مهام تقديم خدمات القرب للمواطنات والمواطنين في إطار الاختصاصات المسندة إليها بموجب القانون التنظيمي الجديد، وذلك بتنظيمها وتنسيقها وتتبعها، ولهذه الغاية، تمارس الجماعة اختصاصات ذاتية، واختصاصات مشتركة مع الدولة في عدة مجالات ذات العلاقة مع العيش اليومي للمواطن، ومنها على الخصوص تنمية الاقتصاد المحلي وإنعاش الشغل، القيام بالأعمال اللازمة لإنعاش وتشجيع الاستثمارات الخاصة، سيما إنجاز البنيات التحتية والتجهيزات والمساهمة في إقامة مناطق للأنشطة الاقتصادية وتحسين ظروف عمل المقاولات.
أهمية الجماعات تكمن في كونها تتصرف في مبالغ مالية كبيرة من أموال دافعي الضرائب، فبالإضافة إلى المداخيل الجبائية للجماعات والمداخيل المحصلة من الأملاك العقارية ومختلف الأملاك الجماعية، هناك صندوق خاص لتمويل الجماعات المحلية عبارة عن حساب خصوصي يسمى «حصة الجماعات المحلية من منتوج الضريبة على القيمة المضافة»، وذلك لتمكين الجماعات من موارد مالية كافية تمكنها من الحفاظ على توازنها المالي والاضطلاع بالمهام المنوطة بها، ويتم تمويل هذا الصندوق من حصة لا تقل عن 30 في المائة من منتوج الضريبة على القيمة المضافة المحصلة على الصعيد الوطني، وإلى حدود متم السنة الماضية بلغ الحجم الإجمالي للمبالغ المرصودة في هذا الحساب ما يناهز 28 مليار درهم.
وهناك مصدر تمويلي آخر تستفيد منه الجماعات، وهو «صندوق التجهيز الجماعي» التابع لوزارة الداخلية، لكن عوض توجيه القروض التي تحصل عليها الجماعات من هذا الصندوق لتمويل المشاريع التنموية والبنية التحتية، تحول الصندوق إلى كنز تذهب أمواله إلى جيوب رؤساء الجماعات وشركات الأهل والأصحاب، ولعل إحدى عجائب هذا الصندوق أن ميزانية محترمة منه ستذهب هذه الأيام إلى بلدية بوزنيقة التي يتابع رئيسها بجناية تبديد أموال عمومية ويتهرب من المثول أمام القضاء.
وحسب آخر المعطيات فقد منح الصندوق منذ سنة 2003، ما مجموعه 1287 قرضا بمبلغ إجمالي قدر بـ8,20 مليارات درهم، همت 623 جماعة ترابية، ورصد المجلس الأعلى للحسابات في تقريره الأخير مجموعة من الاختلالات تشوب المشاريع المقترحة من طرف الجماعات والممولة من طرف الصندوق، حيث لوحظ أن الصندوق لا يطلب من الجماعات الإدلاء بالوثائق التي تخص انتهاء المشاريع، مما لا يمكنه من الحصول على معطيات مرتبطة بتنفيذ المشاريع الممولة، لاستخدامها كقاعدة بيانات لقياس فعالية وكفاءة إسهاماتها في التنمية المحلية وللقيام بتقييم بعدي للمشاريع الممولة، بمعنى «كب الما فالرملة».
لقد حان الوقت لتشديد الرقابة على أموال دافعي الضرائب التي تتصرف فيها الجماعات المحلية، لأن الاستمرار في نهب الميزانيات المرصودة لمصالح المواطنين سينتهي باشتعال كل جهات المغرب، «وديك الساعة آش جا ما طفاها».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى