المبكيات والمضحكات من زمن الرصاص
في هذه الحلقات سوف نحاول أن نقدم «بورتريهات» لأناس عاشوا تجارب غير عادية في مخافر الشرطة وأقبية التحقيق. التهمة كانت غير عادية: المساس بأمن الدولة والتآمر ضد النظام. سنرافق هؤلاء الناس من بداية الستينات وكيف نجا أغلبهم من المشنقة، وصولا إلى واحدة من أشهر المحاكمات وأغربها في تاريخ المغرب. يتعلق الأمر هنا بمحاكمة مراكش 1971. النقيب عبد الرحيم بن بركة، وهو أحد المحامين المغاربة الذين عرفوا أجواء تلك المحاكمة الغريبة، انبرى قبل سنتين ليجمع محاضر المحاكمة الشهيرة ووقائعها أولا بأول. وعندما كان يقدم كتابه في المكتبة الوطنية بالرباط، بحضور الوزير السابق الاتحادي محمد اليازغي، الذي كان واحدا ممن تم اختطافهم ومحاكمتهم في تلك المحاكمة الشهيرة، كان بعض الحاضرين يغمضون أعينهم استرجاعا لذكريات مريرة عاشوها بين مرارة الاختطاف والتعذيب الوحشي، ثم المحاكمة التي استمرت فصولها ساعات دون توقف، لأيام عديدة، اختبرت فيها السماء صبرهم.
في هذه الحلقات التي ترصدها «الأخبار»، سنعيش المحاكمة بكل أجوائها انطلاقا من المحاضر والشهادات، وسنربط الخيوط، في ما يشبه تحقيقا تاريخيا، لنقف عند حقيقة بعض الأسماء وصحة تآمرها على النظام في المغرب. أبطالها إما ماتوا، أو صاروا شيوخا اليوم بكثير من التعقل، يستحضرون لحظات الاندفاع تلك. تسجيلات مع بعض الأسماء التي أراد أصحابها أن يبقوا متخفين، حتى لا يُبعث الجرح القديم، واحتراما لاختيارهم سننشر ما يُطابق هول ما جاء في المحاضر، وسنعود بكم إلى البداية.. كيف صُنعت تلك الاتهامات؟ ومن أين جاء كل أولئك الآلاف الذين اقتيدوا إلى أغرب المحاكمات في تاريخ البلاد؟ محكمة!
أمضى محامو الدفاع شهري يوليوز وغشت، وصولا إلى شتنبر حيث ستصدر الأحكام في أسبوعه الثاني تقريبا، في جو ماراثوني مشحون.
إذ أن بوعبيد، باعتباره متزعما لدفاع المتهمين رفقة امحمد بوستة، واللذين كانا ينتميان معا إلى هيئة محامي الرباط، رفقة عبد الرحمن بنعمرو ومحمد بوزوبع وعبد الرحيم بن بركة وآخرين، حاولوا استصدار قرار من المحكمة يهدف إلى تحسين ظروف اعتقال كل من محمد أجار وأحمد بنجلون، اللذين كانا أول من تم اعتقالهما في القضية وسلما إلى المغرب قبل أزيد من سنة على تاريخ المحاكمة. أي أنهما أمضيا أطول مدة بين التعذيب والاختطاف والاعتقال السري ثم المحاكمة وظروف الاعتقال أثناء انتظار الجلسات. لذلك ركز الدفاع، ممثلا في عبد الرحيم بوعبيد، على محاورة القاضي وتقديم ملتمس مكتوب، وشفهي، لرئيس المحكمة لإعادة النظر في ظروف اعتقال المتهمين.
الحلقة المفرغة
كانت جلسة غير عادية انطلقت في صباح ساخن جدا من أيام يوليوز الأخيرة. ولم يكن القاضي وقتها قد استمع إلى جميع المتهمين. لهذا السبب كان تركيز الدفاع منصبا حول تحسين ظروف اعتقال أحمد بنجلون وأجار، بصفتهما أقدم المعتقلين في القضية.
بعد استراحة ذلك الصباح واستئناف الجلسة في الزوال، تطرق بوعبيد إلى قضية ظروف الاعتقال المهينة التي يتعرض لها السجناء عموما، وطلب من رئيس المحكمة أن يتدخل لتحسين ظروف اعتقال أحمد بنجلون وأجار، لأن السياق الذي كان يتحدث فيه، كان ينصب حول التهم الموجهة إليهما معا. فكان رئيس المحكمة قد فطن إلى المسعى الذي يذهب إليه بوعبيد، فأخبره ببرود زائد أن الأمر لا يدخل في اختصاصه، وأنه من اختصاص النيابة العامة ومدير السجن الذي يُنقل إليه المعتقلون بعد انتهاء الجلسات، في انتظار المواعيد الأخرى القادمة في الطريق..
وكأن الدفاع كان يتوقع رد فعل القاضي في هذه النقطة بالذات، فكان أن عقّب بوعبيد بالقول إنه سبق له أن رفع الأمر إليهما معا لكن دون نتيجة. وبقي الوضع معلقا بطبيعة الحال.
هي حلقة مفرغة إذن، تلك التي كانت تحوم فيها مطالب الدفاع والمتهمين أيضا، بشروط المحاكمة العادلة أو الاعتقال في ظروف قانونية على الأقل. لكن النيابة العامة ظلت تكيل للمتهمين، ومررت وقائع كثيرة على أنها تُطبق وفقا للقانون، والحقيقة كانت غير ذلك، بحسب الروايات التي حكاها عشرات الذين عاشوا ظروف الاعتقال من الداخل.
حتى هيئة محامي الدار البيضاء، والذين رافعوا بدورهم عن عشرات المتهمين في محاكمة مراكش، وعلى رأسهم المعطي بوعبيد وعمر بنجلون، أخ أحمد بنجلون بطبيعة الحال، وأسماء أخرى من المحامين الشباب الذين صار لهم شأن كبير لاحقا داخل هيئة محامي الدار البيضاء. بينما كان هناك محاميان من هيئة فاس هما عبد الكريم بنجلون، والذي كانت له مرافعة مهمة في الجلسات الأولى من المحاكمة كنا قد تطرقنا إليها في الحلقات السابقة، بالإضافة إلى محمد بنسعيد أيضا.
بينما كان هناك أربعة محامين فقط من هيئة مراكش، إثنان منهما، حسب النقيب عبد الرحيم بوعبيد، عينهما رئيس المحكمة في إطار المساعدة القضائية.
واقتربت النهاية..
لم يكن بعض المحامين المذكورين أعلاه، بالإضافة إلى آخرين، يعلمون أن الكماشة بدأت تضيق، فقد كانوا يعقدون الأمل على رئيس المحكمة ويعتقدون أن ما قدموه من أدلة وإعادة قراءة في المحاضر، ستكون كافية لإثبات براءة المتهمين من الجرائم المنسوبة إليهم. لكنهم كلما سمعوا مداخلة وكيل الدولة أو أحد الجهات الأخرى التي كانت تسير في اتجاه تجريم المتهمين والإصرار على أن الأقوال قد أخذت منهم في ظروف إنسانية وعادية، يفهمون أن هناك اتجاها في المعادلة، يدفع بقوة في اتجاه إغراق الأسماء المتهمة، دون تمحيص في الإفادات التي نطقها المتهمون عندما مثلوا أمام المحكمة وتمت مواجهتهم ببعضهم، وظهر واضحا أن هناك تناقضا بين الروايات، خصوصا وأن بعض المتهمين البسطاء قدموا أدلة مقنعة، مثل قصة بنادق الصيد وأجهزة الراديو التي تطرقنا إليها في حلقة سابقة.
لنأخذ على سبيل المثال مداخلة لوكيل الدولة، جاء فيها كلام اعتبر مطعونا فيه قبل أسابيع، عندما أصر الحبيب الفرقاني على كون اعترافاته السابقة قد انتزعت منه تحت التعذيب، ومنحه القاضي الكلمة لكي يقول ما بجعبته، وتحدث بطلاقة عن تفاصيل عمليات التعذيب التي تعرض لها، وبالتفاصيل، حتى أنه رفع قدميه لكي يرى رئيس المحكمة آثار التعذيب التي تعرض لها، وشهد له الآخرون بنفس الأمر. لكن وكيل الدولة فاجأ الجميع بعد أسابيع قليلة من تلك الجلسة المشهودة وهو يكرر الاتهامات الموجهة للفرقاني، وكأن الاعتبارات السابقة لم تعد موجودة. يقول: «عند استنطاق الفرقاتي أدلى بتصريحات تؤكد ما صرح به المناضل، إذ قال إنه عندما كان راجعا من بخاريست التقى بالبصري الذي أطلعه على نيته تأسيس منظمة جديدة، وبعد رجوع الفرقاني اتصل ببنمنصور فأطلعه على ذلك.
هيأ الفرقاني ثلاثة دروس نظرية أولها التدريب على حرب العصابات. ووقعت أحداث أهمها أن بنمصنور سافر إلى باريس بطلب من البصري الذي سلمه ثمانية أسئلة. فانعقد اجتماع في دار الفرقاني حضره آيت المؤذن وبنمنصور. والحدث الثاني هو سفر الدحيش إلى سوريا للقيام بالتدريب. والحدث الثالث هو توصل الغيغائي برسالة تعلن وصول أربعة مدربين. فوقع اجتماع مطول لتحديد برنامج محدد للمدربين. وفعلا وصل المدربون عن طريق الدار البيضاء».
كانت مداخلة وكيل الدولة مفككة وغير مفهومة. وقد كانت فرصة للدفاع لكي يوجه سهامه إليه فور انتهاء مداخلته التي بدا واضحا أنها كانت مملة، وأنها لم تكن تعني المعتقلين في شيء.
والملاحظ أن الفرقاني كان قد تجاوز هذه المرحلة من الاتهام عندما أكد للقاضي بعض الأمور المرتبطة بسياق لقائه ببعض الأشخاص، ولم يكن القاضي وقتها يملك إلا أن يطرح مزيدا من الأسئلة التوضيحية التي قارن فيها بين ما يقوله الفرقاني وما هو مسجل في محاضر الشرطة. ليطرح الفرقاني نفسه السؤال في الأخير: لماذا كان المحققون أو الجلادون مصرين على أن تكون بعض الأجوبة التي يريدون مني تقديمها، محددة ومتوفرة على أسماء بعينها؟
الجواب بسيط، ولم يكن يحتاج إلى أي مجهود. إذ أن الذين دبروا المؤامرة وحبكوا خيوطها، كانوا يريدون الحصول على الأجوبة التي تخدم الوقائع المكتوبة سلفا وبالتفصيل، ولعل التفاصيل التي وصلت إلى النيابة العامة، كانت رهينة بالاعترافات التي كان الجلادون ينتظرونها من المتهمين، وهذا هو التفسير الوحيد الذي يشرح كيف أن أقوالا مطعون في صحتها، تبقى معتمدة من طرف النيابة العامة، على أساس أنها حقائق لا غبار عليها.
في الحلقة المقبلة، سنعرض خيوط التلاقي الأخيرة بين الأسماء التي أثيرت في المداخلة الأخيرة لوكيل الدولة، لكي نرى أين تلتقي كل هذه الخيوط في الأخير.