شوف تشوف

المخطط الشيطاني

 

 

 

عاد الحديث مجددا حول ملف البرنامج الاستعجالي للتعليم وتصدر الواجهة مرة أخرى، بعدما خفت الأضواء حول هذا الملف منذ رفعت النيابة العامة تقريرا للمجلس الأعلى للحسابات بناء على تقارير توصلت بها من رئيس المجلس، وتهم عشر قضايا لها علاقة بثماني أكاديميات جهوية للتربية والتكوين تتضمن مخالفات تستوجب المتابعة، ومن ذلك الوقت لم نسمع شيئا حول تطورات الملف.

فعندما كنا نطالب منذ سنة 2012 ومجيء حكومة بنكيران بأن تبادر لفتح تحقيقات في آلاف الصفقات التي عرفتها الفترة ما بين 2009 و2011، كان البعض يتهمنا بكوننا “حرس قديم” يعرقل حكومة بنكيران، وخصصوا لنا حملات جلد وتشويه منظمة، فقط لأننا نبنها إلى خطورة التقادم في ملفات هذا البرنامج، لأنه لو فتح تحقيق فور تعيين حكومة بنكيران، التي ادعى الحزب الذي يقودها أنه جاء ليحارب الفساد، لما تمكن العديد من الفاسدين واللصوص من الفرار بجلودهم والتمتع بالأموال التي نهبوا.

الآن مرت عشر سنوات كاملة على بدء العمل بهذا البرنامج، والذي نذكر فقط بأن حكومة بنكيران هي التي أوقفت العمل به وألغت بجرة قلم كل المشاريع التي تم الشروع في تنفيذها بخصوصه، وطبعا عندما نقول عشر سنوات كاملة، فإن جزءا كبيرا من حقيقة ما وقع في البرنامج الاستعجالي سيبقى لغزا إلى يوم الدين، فالسيارات التي اشتريت حينها اهترأ أغلبها وتم ركن جلها في مآرب الأكاديميات والمديريات الإقليمية، وإلا من المسؤول الذي قد يجازف اليوم ويسافر بـ”داسيا” عمرها عشر سنوات؟

بمعنى أن التلاعب الذي حصل في صفقاتها لن يتم اكتشافه نهائيا، والمسؤولون عن هذه الصفقات مرتاحو البال للأسف الآن. أما الأدوية فقد تم التخلص منها لكونها تشكل “خطرا” وكأنها لم تكن خطرا ساعة وضعها في المؤسسات التعليمية، بمعنى أن المسؤولين عن صفقات الأدوية مرتاحو البال هم أيضا، ينعمون بالمشاريع التي أنشؤوها بالمال العام الذي تحصلوا عليه من صفقاته، ولا يمكن للجن الأزرق أن يبحث في أمرها لكونها أحرقت وانتهت. والأمر نفسه بالنسبة للحواسيب والآلات الناسخة وكل المعدات الإلكترونية التي استفادت منها شركات بعينها ويقف وراءها مسؤولون بعينهم، وبعضهم يملك هذه الشركات ومرر الصفقات لنفسه، فقد مرت عشر سنوات على هذه الحواسيب، وقد تم التخلص منها هي أيضا في السنوات الأخيرة لكونها “خردة”، لذلك فهؤلاء هم أيضا مرتاحو البال لأنهم يعرفون أن المقارنة بين ما يوجد على الورق وحقيقة هذه الحواسيب والمعدات الإلكترونية مستحيل.

والأمر نفسه بخصوص مئات الصفقات الخاصة بالتغذية، والتي لا يمكن عمليا التحقيق فيها نهائيا لكون الأجساد التي أكلت قد تخلصت من وجبات هذه التغذية ولا يمكن لأي محقق اقتفاء أثرها في مجاري المياه، مع أنها شهدت تلاعبات حولت بعض المسؤولين الصغار المكلفين بمراقبة الممونين إلى مليونيرات، ولا تخلو أكاديمية من موظف لا يتعدى رابته الشهري الأصلي 4 آلاف درهم فيما استطاع في ظرف ثلاث سنوات أن يراكم ثروات هائلة، والسبب هو أن البرنامج الاستعجالي كان قد خصص 4 مليارات درهم في ظرف سنتين للتكوين المستمر لفائدة 200 ألف موظف آنذاك، بمعدل عشرين يوما في السنة، ولنا أن نجري عملية حسابية بسيطة للمبالغ المالية التي تتطلبها تغذية كل موظف واحد عشرين يوما في السنة بمعدل 120 درهما في اليوم هذه فقط للتغذية، دون أن ننسى التعويض المالي عن أيام التكوين، سواء للذين يستفيدون من هذا التكوين، أو الآلاف الآخرين الذين يشرفون على هذه التكوينات المستمرة، ولو على الورق فقط، أي على الرغم من كونهم لم يغادروا مكاتبهم.

وكل المطلعين اليوم على ما يجري في وزارة التعليم يعرفون جيدا سبب لهفة مديري الأكاديميات اليوم على التكوين المستمر وصراعهم مع مراكز تكوين الأساتذة عليه، لكونهم يعرفون جيدا أن صفقات التغذية التي سيخصصونها للمستفيدين من التكوين دجاجة تبيض ذهبا كما يقال، والأمر لا يحتاج إلى ذكاء خاص، فبعض الممونين ينقصون من وزن الوجبات والوزن المتفق عليه، فدجاجة على الورق ليست هي نفسها الموجودة في “الطبسيل”، لذلك بمجرد أن ينتهي الناس من الأكل حتى يضمن كل المسؤولين عن صفقات التغذية أنه لا أحد سيكشف تلاعباتهم، فلا أحد يمكنه أن يتتبع بطون هؤلاء ليتأكد من احترام ما تنص عليه الصفقات، لذلك فعشرات المسؤولين عن صفقات التغذية هم أيضا مرتاحو البال.

إذن لنضع مسافة ولو قليلا مع خبر تقديم ملفات تهم ثماني أكاديميات بخصوص المعدات الديداكتكية، لكونها كما قلنا ملفات صغيرة جدا قياسا لآلاف الصفقات التي تم إبرامها، ولنركز على مسؤولية الحزب الذي يدعي محاربة الفساد عن إدخال كل ما يتعلق بالبرنامج الاستعجالي في دائرة التقادم، بحيث سمح للفاسدين بالاطمئنان من جهة عدم متابعتهم.

فالحقيقة الأكيدة هي أن كل الذين تعاقبوا على وزارة التعليم يعرفون جيدا مصير أموال البرنامج الاستعجالي بالتفاصيل، وقد أنجزت العشرات من التقارير بخصوصه، بعضها قامت به مفتشية الوزارة وبعضها مفتشية وزارة المالية، غير أن تعامل الحكومة السابقة والحالية مع هذه التقارير يثبت بالملموس أنها أكبر جهة تحمي الفساد والمفسدين، ولا ننسى هنا عبارة عفا الله عما سلف التي قالها بنكيران، وهي العبارة التي سيسجل التاريخ أنها كانت بمثابة الضوء الأخضر للمفسدين، بدليل أن نسبة الفساد في القطاعات العامة عموما وفي التعليم خصوصا عرفت ارتفاعا كبيرا بمجرد تعيين الحكومة السابقة، كما سيسجل له التاريخ أيضا أنه وقع بيديه على مراسيم تعيينات مسؤولين جهويين ومركزيين أيادي بعضهم ملوثة بالصفقات المشبوهة للبرنامج الاستعجالي، بل إن البعض منهم عاد لوزارة التعليم مؤخرا كمسؤول مركزي، مع أن اسمه كان في تقارير أنجزت بخصوص صفقات تهم أكاديمية معينة كان يشرف عليها لسنوات.

لقد سبق لنا أن قلنا إن البرنامج الاستعجالي جريمة جماعية، ولا تتعلق بثماني أكاديميات فقط، فإن كانت بعض الأكاديميات لم تتورط في صفقات المعدات الديداكتيكية فإنها حتما تورطت في صفقات أخرى، وفتح تحقيق شامل هو مطلب لا يجب أن يسقط أو يتقادم، بل وينبغي أيضا أن يشمل التحقيق الموسع مصير الصفقات التي أنجزتها الأكاديميات التابعة للجهات التي لم تعد الآن في التقسيم الجديد، وهي صفقات عرف بعضها تلاعبات خطيرة، بعضها تم تداوله إعلاميا مؤخرا، دون أن تقوم الوزارة المعنية بالتوضيح، ونقدم هنا أكاديميات سطات والجديدة التابعتين لجهة الدار البيضاء الآن، وأكاديمية تازة الحسيمة سابقا، وأكاديمية الغرب اشراردة بني احسن، والتحقيق يجب أن يشمل مديري الأكاديميات السابقين والحاليين، لكون الأمر يتعلق بملايير الدراهم تم صرفها بطرق مبهمة في صفقات التغذية والبناء والتجهيز والحراسة والنظافة.

أما ما يبرر هذا المطلب فبسيط جدا، فعندما نجد مثلا أن مدير أكاديمية سابقا في فاس قام بتفويت أرض كبيرة خصصها مخطط التهيئة لبناء ثانوية لصالح مستثمرين بنوا عليها مجموعة ضخمة لمدارس خاصة، وعندما يحصل هذا المدير على تقاعده يتم توظيفه في هذه المجموعة براتب يصل إلى 7 ملايين سنتيم شهريا، فضلا عن مدرسة خاصة ضخمة في الرباط، حينها لن نكون في حاجة إلى ذكاء كبير لنستنتج لماذا على الحكومة الحالية أن تقدم الملف الكامل للبرنامج الاستعجالي منذ 2008 إلى 2012 للنيابة العامة لفتح تحقيقات مستقلة تجيب عن كل الأسئلة التي يطرحها الرأي العام منذ عشر سنوات.

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى