الرأي

المياه الدافئة وراء الصراع بين موسكو وأنقرة

بعض التاريخ يمكننا من الإحاطة بخلفيات وسيناريوهات الصراع بين موسكو وأنقرة، وقد يساعدنا على أن نحدد رؤيتنا الإستراتيجية بناء على ذلك.
قصة جمهورية مهاباد تشكل مفتاحا مهما لفهم ما جرى وما يمكن أن يشهده الصراع بين موسكو وأنقرة إذا قدر له أن يستمر ويتصاعد، ومهاباد هي مدينة في شمال إيران تسكنها أغلبية كردية، وقد أصبحت جمهورية قصيرة العمر تشكلت في أعقاب الحرب العالمية الثانية بعدما دخل الحلفاء إلى إيران وسيطر السوفيات على أجزاء من شمال البلاد.
فخلال وجود القوات السوفياتية شجعت على إقامة كيانات مستقلة موالية فيها كانت أذربيجان واحدة منها، وكانت الثانية هي جمهورية مهاباد الديمقراطية الشعبية التي تأسست عام 1946 ورأسها قاضي محمد مؤيدا من قبل الحزب الديمقراطي الكردستاني، إلا أن الضغوط الغربية القوية على الاتحاد السوفياتي والشكوى التي قدمتها طهران أمام الأمم المتحدة واتهمت فيها السوفيات بعدم الانسحاب من أراضيها اضطرت موسكو إلى التخلي عن مهاباد بعد ١١ شهرا من تأسيس جمهوريتها.
وبانسحاب السوفيات وجهت إيران حملة عسكرية لاستعادة السيطرة على المناطق الكردية، وحين وصلت تلك الحملة إلى العاصمة مهر آباد ألقت القبض على رئيسها قاضي محمد وشقيقه صدر ونفذت فيهما حكم الإعدام، إلا أن فريقا من الأكراد ظل يقاتل القوات الإيرانية تحت قيادة رئيس الأركان في حكومة مهاباد مصطفى البرزاني والد رئيس إقليم كردستان العراقي الحالي مسعود بارزاني، إلى أنه هزم في المقاومة فلجأ إلى الأراضي السوفياتية، حيث بقي هناك حتى عام 1958، وعاد بعدها إلى العراق.
هذه الخلفية تسلط الضوء على ثلاثة معالم في سياسة موسكو الخارجية، الأول والأهم يتمثل في التوجه نحو الجنوب في محاولة التوسع والتمدد، الأمر الثاني يتعلق باستثمار ظروف المناطق الرخوة التي لا تواجه فيها تحديات تكبح جماحها، الأمر الثالث يتمثل في العلاقة الخاصة والتاريخية التي أقاموها مع الأكراد واستثمرتها موسكو في تنفيذ مخططاتها.
اتجاه موسكو إلى الجنوب سابق على إقامة الاتحاد السوفياتي وظروف ما بعد الحرب العالمية الثانية، ذلك أن لهذه الإستراتيجية جذورا تمتد إلى القرنين الـ18 والـ19، أي في مرحلة روسيا القيصرية التي تمددت في آسيا الوسطى ومنطقة القوقاز التي اعتبرتها حديقتها الخلفية المؤدية إلى الجنوب، ذلك أن أبصارها ظلت معلقة طول الوقت بالمياه الدافئة في الجنوب التي كان البحر الأبيض المتوسط رمزا لها.
في تلك المرحلة المبكرة لم يكن السبيل إلى عالم المياه الدافئة سهلا بسبب وجود دولتين كبيرتين تعترضان ذلك الطريق، هما الإمبراطورية الفارسية والإمبراطورية العثمانية، ولذلك تعددت الحروب بين روسيا القيصرية وهاتين الإمبراطوريتين خلال القرن الـ19 خصوصا، فقد اشتبكت مع الدولة الفارسية خلال السنوات 1804 و1813 و1826، ودخلت في حرب ضد العثمانيين في الأعوام 1828 و1829 و1853.
وإذ ظل التمدد والتوسع باتجاه المياه الدافئة عنصرا حاكما في السياسة الروسية طول الوقت إلا أن الكنيسة الأرثوذكسية كان لها دورها المساند لتلك السياسة، خصوصا في عهد الإمبراطور نقولا الأول عام 1853، إذ استخدم نفوذ الكنيسة في التحرش بالدولة العثمانية فطلب من السلطان العثماني عبد المجيد تنحية الكاثوليك وإحلال الأرثوذكس محلهم في القرارات المتعلقة بالأماكن المقدسة، بحيث يكون للأخيرين دون غيرهم حرية التصرف في مفتاح كنيسة المهد ببيت لحم.
وفي طور لاحق طلب القيصر الروسي وضع جميع الرعايا الأرثوذكس في الدولة العثمانية (نحو عشرة ملايين شخص) تحت حماية روسيا وكنيستها الأرثوذكسية، وحين رفض السلطان العثماني الطلب كان ذلك من بين الأسباب التي دفعت الروس إلى اجتياح البلقان في منتصف القرن الـ19.
وفي هذا الصدد، يذكر أن القيصر نيقولا الأول الذي حكم روسيا بين عامي 1825 و1855 كان له النصيب الأوفر من بين القياصرة الذين أعلنوا الحرب على الدولة العثمانية، ومشهودة حروبه التي شنها بين عامي 1826 و1828 إضافة إلى حرب القرم بين عامي 1853 و1856.
وفي الحالتين تدخلت الدول الغربية إلى جانب الأتراك لمنع روسيا من إنزال الهزيمة بالدولة العثمانية وعدم السماح لها بالوصول إلى البحر المتوسط، وفي الوقت ذاته فإن روسيا ظلت آنذاك تساند حركات التمرد ودعوات الاستقلال الوطني في البلقان لإضعاف نفوذ الدولة العثمانية.
في الوقت الراهن صار حلم القياصرة في الوصول إلى المياه الدافئة أقرب إلى التحقق، إذ شاءت المقادير أن يتولى القيادة في موسكو زعيم أراد أن يعيد إلى روسيا هيبتها التي فقدتها بعد الذي أصابها جراء انهيار الاتحاد السوفياتي في بداية تسعينيات القرن الماضي، وتزامن ذلك مع اجتماع عوامل أخرى أعطت انطباعا بأن الطريق إلى المياه الدافئة بات مفتوحا وممهدا.
فإيران الجارة الكبرى تم تحييدها وعلى تفاهم وتوافق مع موسكو، والعالم العربي شوه وعيه وانفرط عقده بحيث تحولت الأمة إلى شراذم متفرقة لم تعد تستهجن التدخل الأجنبي بقواعده وجيوشه وإنما صارت تشتهيه، ثم إن روسيا مطلوبة ومرغوبة من جانب النظام السوري، وثمة تفاهم ومصالح مشتركة بين القاهرة وموسكو، ليس ذلك فحسب وإنما صارت مصر مشتبكة وعلى خصام مع تركيا وهي التي وقفت إلى جانب السلطنة العثمانية ضد الروس أثناء حرب القرم في منتصف القرن الـ19.
ولا يقل أهمية عن كل ما سبق أن الولايات المتحدة لم تعد مشغولة كثيرا بما يحدث في المنطقة بعدما حصرت اهتمامها وركزته على مواجهة تطلعات الصين، أما أوروبا التي كانت تقف بالمرصاد لتطلعات القياصرة الروس فإنها أصبحت مشغولة بحسابات القارة واستقرارها، لدرجة أنها لم تفعل شيئا يذكر بعد احتلال روسيا شبه جزيرة القرم في جنوب أوكرانيا.
روسيا الآن لم تعد فقط تتطلع إلى المياه الدافئة، وإنما أصبحت تتمدد على شواطئها في سوريا، ولم تكتف بتكثيف وجودها العسكري على الأرض والجو، وإنما عمدت إلى إقامة القواعد في طرطوس واللاذقية وثمة حديث عن تجهيزها قاعدة ثالثة قرب حمص.
ليس ذلك فحسب، وإنما لم تجد القيادة الروسية غضاضة في أن تتعامل مع الشعب السوري بمثل ما تعامل به بوتين مع الشيشانيين عام 1994 حين استخدم جيشه وطائراته لتدمير العاصمة غروزني وتسوية مبانيها بالأرض بعد إخلائها من السكان، وكان ذلك متماهيا تماما مع أداء النظام السوري.
في هذه الأجواء أسقطت تركيا الطائرة الروسية من طراز سوخوي التي اخترقت أجواءها، واعتبر الرئيس الروسي ذلك «خيانة» و»طعنة في الظهر» جرحت كبرياءه، وبسببها أعلن أن بلاده مستعدة للرد والردع ولن تمرر الإهانة بغير حساب عسير، وهو ما استدعى أسئلة عديدة حول طبيعة الرد وحدوده وما تملكه موسكو من أوراق وأرصدة تعينها على تلك المواجهة.
حتى الآن ثمة توافق على أمرين في الصراع الحاصل بين موسكو وأنقرة، الأول أن المواجهة العسكرية مستبعدة، خصوصا أن تركيا عضوة في حلف ناتو الذي تشترك فيه الولايات المتحدة مع الدول الأوروبية، الأمر الذي يحول المواجهة العسكرية إلى مغامرة كبرى وحرب عالمية تحرص كل الأطراف على تجنبها.
الأمر الثاني: أن الرد الروسي سيكون في حدود العلاقات والإجراءات الاقتصادية التي يمكن أن تضر بالاقتصاد التركي سواء في إمدادات الغاز أو السياحة أو التبادل التجاري والمشروعات المشتركة التي قد يكون لها تأثيرها أيضا على الاقتصاد الروسي، وحدود التصعيد الحاصل بين البلدين ليست معلومة، لأن بيد روسيا ورقتين خطيرتين يمكن استخدامهما في إزعاج تركيا إلى حد كبير.
أتحدث عن ورقتي الأكراد والعلويين الذين يمثلون ما بين 30 و35 في المائة من الشعب التركي، وعلى الرغم من أنه ليس هناك إحصاء دقيق للاثنين فإن عددهم لا يقل عن 25 مليون نسمة، وهو رقم قابل للزيادة، ذلك أن علاقة الأكراد بالسوفيات والروس قديمة ووثيقة كما سبقت الإشارة، وتجربة جمهورية مهاباد التي أقاموها في إيران حاضرة لا تزال في الذاكرة.
وإذا وضعنا في الاعتبار تدهور العلاقة في الوقت الراهن بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني فإن ذلك قد يغري الروس بمحاولة توظيف الورقة الكردية في الضغط على أنقرة على الرغم من أن رئيس كردستان العراقي مسعود البارزاني يحتفظ بعلاقات إيجابية وطيبة مع الأتراك، الأمر الذي قد يشكل عقبة في طريق ذلك المسعى إذا أرادت روسيا اللجوء إليه، ولا ينسى في هذا الصدد أن ثمة أكرادا في إيران المهادنة أو الحليفة، وحساسيتها إزاء الملف تشكل عقبة أخرى، علما بأنني لا أعرف إلى أي مدى يثق الأكراد في موسكو التي ساعدتهم كثيرا في السابق، لكنها تخلت عنهم بسرعة حين أدركت أن لها مصلحة في ذلك، وهو ما حدث في تخلي الروس عن حكومة مهر آباد في إيران، وحين تحالفت موسكو مع مصطفى كمال أتاتورك في عشرينيات القرن الماضي، فانفرد الرجل بهم حتى كان حكمه من أشد المراحل دموية في تاريخهم.
ورقة العلويين وتحريضهم على التمرد في تركيا يمكن أن يتكفل بها النظام السوري الذي لم يقصر في محاولة استمالتهم وتحريضهم طول الوقت في صراعه مع النظام التركي، وفي ظل التحالف القائم بين دمشق وموسكو فليس مستبعدا أن يتوافق الطرفان على استثمار الورقة العلوية في إثارة القلاقل والاضطرابات داخل تركيا.
هذا الخيار لا يخلو من مغامرة، لأن استخدام الروس ورقة الأقليات في الضغط على تركيا قد يدفع أنقرة إلى الرد بتشجيع المسلمين السنة داخل الاتحاد الروسي بدورهم على التمرد وإزعاج حكومة موسكو، وقد ذكرت من قبل أن هؤلاء عددهم نحو عشرين مليونا، كما أن بعضهم مستنفر وجاهز للتمرد على الحكم الروسي، خصوصا في الشيشان وإنغوشيا وداغستان، كما أشرت إلى تقديرات أعداد شبابهم الذين التحقوا بجماعة داعش (تنظيم الدولة الإسلامية) في سوريا والعراق التي تراوحت بين أربعة وسبعة آلاف مقاتل.
إننا مقبلون على مرحلة مفتوحة على احتمالات وخيارات عدة تتراوح بين السيئ والأسوأ، (الأفضل ليس واردا)، ويهمنا في المشهد أمران، أولهما أن نتعرف على خلفياته وأبعاده، وثانيهما أن نحدد رؤيتنا الإستراتيجية بناء على ذلك، هذا إذا أردنا أن نحكم العقل والمصالح العليا، وليس الانفعالات والحسابات المرحلية والطارئة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى