الرأي

انهيار سد الموصل

ما زلت أذكر تنبؤين من حرب الخليج الأولى (16 يناير 1991م). الأول: الشتاء النووي في حال أشعل صدام آبار النفط الكويتية كلها، والثاني: طوفان نوح من العصر الجديد، فيما لو تم صدم سد صدام بقنابل ذرية أو شبه ذرية أو ضرب إسرائيل بصواريخ سكود.
كان الجو مجنونا في تلك الأيام عن احتمالات استخدام صدام للأسلحة الكيماوية والبيولوجية في ظل حادثة حلبجة الموثقة؛ فالرجل كأي ديكتاتور لا يردعه أي شيء عن استخدام أي سلاح؟
وما يردع بوتين حاليا عن استخدام النووي هو وجود سلاح نووي مقابل، والأهم أن استخدام أسلحة الدمار الشامل سيأخذ الخصمين إلى الفناء، ولا أحد يريد الفناء.
كانت الحرب في ما سبق تهدف إلى المكاسب، واليوم لا يخوضها الغرب بأخلاقية عالية، بل يستخدمها ضد السوريين كما يفعل بوتين، ولكنه لا يستطيع توظيفها لهدم أمريكا، لمعرفته اليقينية أن هذا سيأخذه إلى جهنم وبئس المصير، فهذا هو ما يردع الغربيين عن خوض الحروب، وهذه فلسفة مهمة يجب أن يستوعبها القارئ. ولو أن المقاومة السورية تملك وسائل إسقاط الطائرات السوفيتية كما فعلت تركيا لتغيرت خريطة سوريا، ولكن عالم الكبار المجرم يخطط لأمر مختلف.
ولعل القارئ يتذكر جيدا حرب الخليج المنحوسة عام 91 وكيف كان صدام يرسل صواريخه في نفس الوقت إلى الرياض وتل أبيب. قال التحليل الذي قرأته أنا يومها بتمعن من مجلة دير شبيجل الألمانية، أنه لو حصل فانهار سد الموصل فسوف تغرق المدينة تماما، وستنساح المياه إلى بغداد؛ فتجرف على شاطئ نهر دجلة معظم الدساكر والقرى والمدن، وسوف يصل ارتفاع ماء الفيضان في بغداد إلى مترين.
لعل طوفان نوح جاء في قصص من هذا القبيل، حين يأتي القانون الماحق الساحق لنهاية حضارة بشكل ما. في القرآن مبدأ عظيم عن الذنوب ومآلها، فيقول أن القانون حين يسود في الهلاك يأخذ صورا شتى من الغرق والخسف والريح الحمراء وصاعقة العذاب الهون، أو بالطاغية كما هو الحال مع الطاغية بشار البراميلي.
الفيضان أعرفه جيدا يوم كنت أعمل في المشفى التخصصي في القصيم من السعودية؛ ففتحت أبواب السماء بماء منهمر، وتفجرت الأرض عيونا، فالتقى الماء على أمر قد قدر.
ورأيت بعيني الطوفان يقتحم جنبات المنزل، وأنا أسعى لإنقاذ كتبي بالدرجة الأولى؛ فهي أثمن ما أملك. غرق المشفى يومها ومعه بيتي؛ فبدأنا نمشي بسيقاننا في ارتفاع ماء نهر يغمرنا إلى ما فوق الركب. وبقيت شهرا أرى آثار الطوفان وأنظف آثاره، فالماء شيء عجيب لا يترك مكانا إلا ويدخله مثل الهواء.
سد الموصل الذي بناه صدام واكتمل عام 1986م وسماه باسمه كما سمى الأسد آخر في سوريا باسمه، وكما سمى عبد الناصر أيضا سدا باسمه، ولكن الناس نسيت الأشخاص الزائلين وأخذت الأسماء الفعلية، وهكذا أصبحت الأسماء بالتتالي سد الموصل، سد الطبقة، سد أسوان.
من العجيب أن التقارير التي تظهر للسطح هذه الأيام خطيرة وفيها أيضا رائحة السياسة وأخباثها؛ فالأمريكيون يحذرون من مخاطر انهيار السد وهم في طريقهم لطرد مجرمي داعش من مدينة الموصل عاصمتهم؛ فهل سيتم الطرد بخرطوم مائي بقوة 12 مليار متر مكعب من الماء، بانشقاق السد وتحوله إلى شظايا وفتات؟ قد يحدث، لا ندري؟ وقد تنسب اللعنة إلى مجرمي داعش باعتبار أنهم سابقا استولوا عليه ونهبوا المعدات التي تقوم بصيانته. لكن تقارير الخبراء العالميين حسب ما أفاد به مهندس عراقي مختص بالسدود، يدرس في جامعة سويدية، تؤكد أن انهيار السد أمر قادم لا شك فيه، وأن الأخطاء كانت في بنيته الأولى منذ أن أقامه السويسريون فرفعوه إلى 130 مترا وبعرض أكثر من ثلاثة كيلومترات. وعلى الرغم من الصيانة فهناك ثغرات خطيرة في تركيبته، وسيكون انهياره أفظع كارثة في تاريخ العراق الحديث، يموت فيها خلق كثير بمئات الآلاف، وتهرب من الطوفان زحوف لا نهاية لها، وتمسح مدن من الخارطة، ويتغير العراق جغرافيا وديموغرافيا، وربما نتذكر القول العراقي: بعد خراب بصرة. هنا سنقول بعد خراب وخرائب نينوى.
مشكلة المتخلفين مع التكنولوجيا الحديثة، كما في التصنيع النووي الإيراني، ومثيله عند الحلوف الكوري، الذي أعلن عن تفجير قنبلة هيدروجينية، أو انهيار سد زيزون السوري على يد البعثيين العبثيين، ولم تمض على بنائه سنوات، مشكلة التخلف كما اختصرها المفكر الإيراني التنويري (علي شريعتي) الذي لم تستفد منه إيران بأكثر من فلاح في فهم رياضيات التفاضل والتكامل، أو استيعاب حضيض عطارد في النسبية وتطبيقاتها في علم الكوسمولوجيا عند بدوي، ولا عيب في الفلاح والبدوي، ولكن كل العيب على مقتحمي التكنولوجيا الحديثة بعقلية الفلاح والبدوي، بدون تغيير يوافق المساحة الجديدة، فالبدوي والفلاح عنده من الذكاء الفطري ما يقيه من اقتحام مجالات لا يتقنها. أما المتخلفين أنصاف الأميين أرباع المتعلمين فهم شر البرية.
قال (علي شريعتي) وهو يتحدث عن الاستحمار، إن المتخلف يخرب الجهاز بسرعة، ويبقى ثلاثين سنة يستخدمه مخربا، والمتقدم يحافظ على صيانة الجهاز عاملا بكل الطاقة حتى لو تقادم الدهان.
سد عملاق يولد 1500 ميغاواط من الطاقة، ويخزن أكثر من درزن مليار متر مكعب من الماء، يمكن أن يحول العراق إلى جنات ذات بهجة للناظرين، فحولها صدام إلى قصور سوف تباع هذه الأيام كما يقال بـ 160 مليار دولار لتغطية عجز الحكومة العراقية، حيث توجد أعظم ثروات الأرض في أخصب أرض، انبثقت منها حضارة أوروك وبابل، قبل أن تتحول إلى مسرح يتقاتل فيه البشر كأشرس الضواري وألعن الحيوانات وأغبى الخلائق ولا يعمل فيها شيء، ويتناحر الناس حول قبور قوم ماتوا قبل آلاف السنوات بخلافات سياسية ليسوا مسؤولين عنها ولا يعرفون عنها شيئا. نحن نعرف في التاريخ أن الصليبيين زحفوا من أوربا بسبع حملات للدفاع عن قبر المسيح، كما يفعل الغزاة الإيرانيون حاليا في قتل الأطفال السوريين بحجة الدفاع عن قبر أم كلثوم ورقية وزينب، وبنات النبي (ص) ليست لهن معرفة بما يحدث فوق القبور، فقد طوى التاريخ هذه القصص، ولكن هناك من يتوقف في مربعات الزمن متكلسا محنطا يقاتل فيُقتل ويَقتل. ألا ساء ما يعملون وقبح ما يتصرفون. وإذا سمعنا أن الروس أيضا يقاتلون عن قبر راسبوتين فيجب أن لا نعجب. هل تعرفون من هو راسبوتين؟ اقرؤوا عن هذا القس الداعر في جوجل وكيف كان أحد أسباب نهاية عائلة رومانوف التي حكمت روسيا 300 عام قبل أن يأتيها من هو أدهى وأمر وألعن وأشد دموية.
في التاريخ قصص مريعة عن انهيار حضارات انتهت بالطوفان، أولها طوفان نوح، أو سد مأرب في اليمن، الذي انهار كما في قصة سبأ التي توجت سورة باسمها في القرآن.
أنا شخصيا عشت فترة في منطقة عسير في جنوب السعودية حذاء اليمن، فرأيت آثار السيول وكيف تتدفق انهارا؛ فتحمل الجسور الشامخات وكأنها لعب أطفال.
كما أعترف أنني لم أفهم قصة سبأ حتى قمت بزيارة إلى اليمن غير السعيد بدعوة من صديقي (عصام السمان) هناك، فأخذني إلى المنطقة فرأيتها وصليت المغرب هناك وأنا أتأمل جنتين عن يمين وشمال، بلدة طيبة ورب غفور؛ فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل. ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور.
فكرت فعلا مليا في قصة سبأ، وأنا أخط هذه الأسطر عن تصريحات غير مسؤولة من مديرية سد الموصل تقول إن كل ما يشاع عن احتمال انهيار السد لا يزيد عن ثرثرة.
قرأت الآيات من جديد، لقد كان لسبأ في مسكنهم آية. جنتان عن يمين وشمال، بلدة طيبة ورب غفور فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم.
قلت في نفسي فأعرضوا ثم ماذا جرى؟ ثم كلمة بما كفروا؟ ما هو نوع الكفر الذي مارسوه؟ ثم ما معنى قولهم باعد بين أسفارنا؟
في النهاية توصلت إلى أن نوع الكفر ليس الإلحاد بوجود الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ولكنه استباحة دم الإنسان والتخاصم العبثي، كما يجري في الموصل بين داعش وفاحش وماعش والحشد الشعبي في مناظر مريعة من الاقتتال الطائفي الأعمى، وهو ما يقود في النهاية إلى نهاية الحضارات، حين تغفل فيأتيها العذاب فيقولون هل إلى مرد من سبيل؟
كذلك أفادتني الآيات من سورة سبأ عن المرض الثاني للحضارة، فهو لعنة التوسع: قولهم باعد بين أسفارنا. وهو القانون الذي وصل إليه المؤرخ الأمريكي باول كيندي مشخصا أفول أعظم حضارة على وجه الأرض اليوم (أمريكا) وهو أمريكي.
وهو قانون ينتظم كل حضارات التاريخ بدءا من الفراعنة ومرورا بروما وانتهاء بالاتحاد السوفييتي وسيأتي الدور على التوسع الإيراني أيضا في عشرين سنة القادمة.
بالمناسبة، في نفس مكان السد لاحظت أن دولة الإمارات صرفت مائة مليون دولار في إعادة إعمار، ولكن في مكان أضيق من الأول، فقلت في نفسي كم كان هؤلاء اليمنيون الأقدمون بارعون، وكم هم تعساء اليوم. إنها دورة الحضارة.
وظلموا أنفسهم فمزقناهم كل ممزق وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون. معاني جديدة تفتقت لي من الآيات ودلالة الكفر والإيمان والشكر والمغفرة وكيف تعمل قوانين الله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى