الرأي

بعيداً عن باريس وإسطنبول.. (1/2)

قد يكون مفيداً فتح ملفات أخرى حول الإرهاب، تتجاوز المألوف «الإسلامي ـ الجهادي» عموماً، و«القاعدي» و«الداعشي» خصوصاً… وذلك لأسباب عديدة؛ بينها تحريض العقول الراكدة على النظر أبعد من أرنبة الأنف، والتفكير أقرب إلى الحال المركبة للواقع الفعلي ـ وهكذا، إذْ يضرب الإرهاب في إسطنبول، بعد أن ضرب في باريس وبروكسيل؛ يصبح مشروعاً الانتقال إلى إرهاب الدول، وليس الجماعات والمنظمات وحدها، كما في استخدام القاذفات الروسية أسلحة محرّمة دولياً، ضدّ الإنسان والعمران، والمشافي والأسواق والمخابز. أو إرهاب الولايات المتحدة، في أنماطه الكثيرة والمتغايرة؛ من القصف العشوائي، إلى الاغتيال بالطائرات الذكية.
ثمة، إلى هذا، تطوّر وقع مؤخراً، في بلد بعيد عن الشرق الأوسط وحواضن الإرهاب «الإسلامي ـ الجهادي»؛ سمته المميزة الأخرى أنه يلملم الجراح ولا ينكؤها، ويدشن ميدان مصالحة وطنية بدل إشعال ساحة نزاع واحتراب، بعد خمسة عقود ونيف من الحرب الأهلية الدامية، سقط خلالها ربع مليون ضحية، وشُرّد الملايين. هذا البلد هو كولومبيا، الذي شهد ـ في العاصمة الكوبية هافانا، برعاية إضافية من فنزويلا وتشيلي، فضلاً عن الأمين العام للأمم المتحدة ـ توقيع اتفاق نهائي لوقف إطلاق النار وإنهاء الأعمال القتالية، بين الرئيس الكولومبي خوان مانويل سانتوس، ورودريغو لوندونو زعيم «جبهة القوات المسلحة الثورية الكولومبية» اليسارية، الـ«فارك». والاتفاق يتضمن تفاصيل إلقاء السلاح بالنسبة إلى قرابة سبعة آلاف مقاتل في صفوف الـ«فارك»، والضمانات الأمنية التي ستوفّر لهم عند بلوغ المصالحة الوطنية النهائية.
تطور بهيج بالطبع، لا يخلو مع ذلك من طرافة سوداء: مشاركة برنارد أرونسون، الدبلوماسي المخضرم ومبعوث البيت الأبيض، في مراسم التوقيع؛ وكأنّ إدارة باراك أوباما تريد التأكيد على أنّ سياسات واشنطن بخصوص كولومبيا لم تكن سليمة وحصيفة فقط، بل هي جديرة بالتكريم في هذا اليوم الكولومبي الأغرّ أيضاً! وما دام أرونسون يختزل في شخصه، عبر عقود من التخصص في شؤون أمريكا اللاتينية منذ 1977، روح سياسات جيمي كارتر وجورج بوش الأب وبيل كلنتون، معاً، في علاج الحرب الأهلية الكولومبية؛ فإنّ إرساله اليوم إلى كوبا هو أقرب إلى بصمة أوباما على وثائق الاتفاق!
وفي الماضي لم يكن أي تقرير عن كولومبيا، يصدره معهد «راند» الأمريكي المختصّ بأبحاث «الدفاع الوطني»، يخلو من تفاصيل مذهلة حول تهريب السلاح والاتجار به استيراداً وتصديراً؛ في بلد تقول أكثر الإحصائيات تفاؤلاً إنّ نسبة الجريمة فيه هي الأعلى في العالم. غير أنّ هذه الحقيقة، أي العلاقة بين تجارة السلاح وارتفاع معدّل الجريمة، لم تكن مدعاة ذهول أكثر من الحقيقة الأخرى التالية: أنّ معظم هذا السلاح يأتي من مصدر واحد هو ما يُسمّى «مستودعات الحرب الباردة»، أي تلك الكميات الهائلة من الأسلحة التي سبق أن خزّنتها الولايات المتحدة في بلدان أمريكية ـ لاتينية، مثل الهوندوراس والسلفادور ونيكاراغوا.
ليس هذا فحسب، بل إنّ الوجود العسكري الأمريكي الثابت في كولومبيا يُراد منه، كما يُقال لأهل البلد وللعالم بأسره، محاربة هذه الظواهر الباعثة على العنف تحديداً. ولقد تكفلت معونات أمريكية بقيمة 3.5 مليار دولار، فضلاً عن مئات العسكريين الأمريكيين، بنقل كولومبيا إلى المرتبة الثالثة في ترتيب الدول التي تتلقى مساعدات عسكرية أمريكية على نطاق العالم! وبالطبع، ليس من جديد في القول إنّ الهدف الرئيسي للوجود العسكري الأمريكي هناك إنما ينحصر في حماية خطّ أنابيب البترول التابعة لشركة «أوكسدنتال بتروليوم»، في قلب منطقة أروكا النفطية.
في الآن ذاته، ظلت إدارات البيت الأبيض المتعاقبة تغفل الإشارة، حتى على استحياء، إلى «أعمال القتل غير المشروعة» وحالات «الاختفاء القسري»، التي تُعزى إلى قوّات الأمن الكولومبية، وتعجّ بها تقارير منظمات حقوق الإنسان. وهذه الانتهاكات لا تُعدّ بالعشرات أو بالمئات، بل بالآلاف وعشرات الآلاف؛ وهي تشمل وجوه المعارضة الديمقراطية السلمية، وليست تلك المسلحة التي تخوض حرب عصابات، فضلاً عن ممثّلي النقابات في ميدان أشغال النفط تحديداً، وبعض أبرز وجوه المجتمع المدني الكولومبي. وإذْ ظلّ البلد يشهد حرباً أهلية طاحنة، ينخرط فيها عشرات الآلاف من أعضاء الميليشيات يميناً ويساراً؛ فإنّ البيت الأبيض، وبصرف النظر عن هوية شاغله الأوّل، وما إذا كان جمهورياً أم ديمقراطياً، ظلّ يختزل هذا كلّه إلى مجرّد حرب أمريكية ضدّ المخدرات.
والاختزال ينطوي، بالطبع، على طمس الحقائق السياسية والاجتماعية وراء هذه الحرب الأهلية؛ وكيف أنّ بعض الجوهريّ الأهمّ فيها كان مصادرة أراضي مئات الآلاف من الفلاحين، وطردهم من مئات القرى على امتداد ثلاثة عقود، الأمر الذي أطلق شرارة العصيان الشعبي الذي تتزعمه اليوم الـ«فارك». ورغم أنّ هذه الجبهة سيطرت على مساحات شاسعة واسعة من الأراضي الوطنية، فإنّ الولايات المتحدة تصرّ على اختزالها إلى «عصابة مخدّرات»، وتضع أمر تصفيتها على قدم المساواة مع محاربة عصابات المخدرات الحقيقية.
الحقيقة، رغم ذلك، تشير إلى أنّ الزمرة العسكرية المهيمنة على المؤسسات الديمقراطية الشكلية هي التي تسهّل زراعة المخدرات، وتصنيعها وتجارتها؛ لأنها شريكة مباشرة في الـ«بزنس»، بل هي الشريك الأوّل الذي لا غنى عنه. وفي عام 1998، لتقديم مثال مضحكٍ ـ مبكٍ، هبطت طائرة رئيس أركان سلاح الجوّ الكولومبي في مطار ميامي، وشاءت الصدفة وحدها أن تُكتشف على متن الطائرة الرسمية كمية من الكوكايين لا تقلّ عن… نصف طن!
المدهش أكثر أنّ الرئيس الكولومبي الأسبق أندريس باسترانا سارع، فور انتخابه، إلى فتح حوار مع الـ»فارك»، رافضاً التصنيف الأمريكي الذي يضعها في خانة عصابة مخدرات، ومعتبراً أنها حركة ثورية ذات مطالب سياسية واجتماعية. ومَن الذي فرمل حوار الرئيس؟ الولايات المتحدة وحدها، سواء عن طريق الضغط المباشر على الرئيس، أو عن طريق تحريض الطغــمة العسكرية على تصعيد العمليات العسكرية ضد الـ«فارك» بالتزامن مع إطلاق مفاوضات السلام بين السلطة والجبهة؛ أو ــ أخيراً ــ عن طريق الزيادة الدراماتيكية في حجم ونوعية المساعدات العسكرية الأمريكية، ورفع تلك المساعدات إلى مستوى التدخل العسكري.
وفي الآن ذاك، حين كانت الدوائر الأمنية الأمريكية تسعى إلى تفخيخ حوار باسترانا مع المعارضة الثورية، كان الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون يزور البلاد بهدف دعم الرئيس الكولومبي في «المعركة التي يخوضها من أجل تثبيت دعائم الحكم الديمقراطي»! الزيارة، مع ذلك، اقترنت بتقديم مساعدات أمريكية بقيمة 1.3 مليار دولار أمريكي (الرقم الثالث لأعلى مساعدات أمريكية خارجية، بعد إسرائيل ومصر)؛ تأخذ في الجوهر شكل معدّات عسكرية، ولا علاقة لها بالتنمية أو التطوير الاقتصادي والاجتماعي.
أليس إعلان الولايات المتحدة الحرب على الـ«فارك» يعني «اصطفاف البيت الأبيض مع الطغمة العسكرية، المتورطة تماماً في تجارة السموم، والمتحالفة مع ــ والساكتة عن ــ ميليشيات اليمين التي تمارس الإرهاب والمذابح البربرية كلّ يوم؟»؛ تساءل روبرت وايت، السفير الأمريكي المتقاعد الذي عمل في السلفادور والباراغواي.
بالطبع، وهكذا ستبقى الحال في كلّ ملفّ تباشره واشنطن بروحية الاختزال، ولا يراه البعض إلا عبر أرنبة أنف تبصر باريس وبروكسيل واسطنبول، وتنحسر عن إرهاب القوى العظمى؛ في حلب، كما في بوغوتا!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى