شوف تشوف

شوف تشوف

بوليف، الخلفي ديكاج

مكرها قدم نجيب بوليف، كاتب الدولة في النقل، اعتذاره عن تدوينته التي عاتب فيها المغاربة على اهتمامهم بمأساة السيدة المسنة عائشة التي تسلقت عمودا بوسط الرباط لإثارة انتباه المسؤولين لظلم لحقها، مساويا بين مأساتها وبين خبر شراء عارضة أزياء لخاتم وخبر طلاق ممثلة.
ولكي يجعل اعتذاره أقبح من زلته قال «معذرة مي عيشة والله يفرج عليك كربك ويفتح عليك من بركاته وخيراته… وخيرا أن بعض التأويلات لتدوينتي جعلتني أتواصل معك للاعتذار لك».
على من يضحك بوليف هذا؟
هل امرأة مسنة أمية ستقرأ اعتذار كاتب الدولة وتواصله معها على الفيسبوك؟ هل يعتقد بوليف أن «مي عيشة» تغرد مثل رئيسه في الحكومة على تويتر وتضع صورها وهي تتسلق الأعمدة على الإنستغرام؟
ثم هل المنتظر من كاتب دولة في الحكومة أن يحل مشاكل الناس برفع أكف الضراعة إلى الله هو الذي صوت عليه الناس لكي يدافع عن حقوقهم بالفعل لا بالقول؟
إن ما كان يجب أن يقدمه بوليف هو استقالته من الحكومة وليس مجرد اعتذار، لأن خطورة ما عبر عنه تكمن في كونه يحمل في داخله احتقارا لمآسي الطبقات السفلى من الشعب التي لا تجد سبيلا لإبلاغ من هم في الفوق بالجحيم الذي تعيشه سوى إحراق ذاتها أو التهديد بإلقاء نفسها من أعلى البنايات أو تسلق الأعمدة والتهديد بالسقوط.
إن خطورة ما كتبه بوليف تكمن في استخفافه واحتقاره للشعب المسحوق، فكرة القدم عنده أهم من مصير مسنة تسلقت عمودا بعدما لم تجد أذنا صاغية، فقد كتب وحلل وتفلسف في كرة القدم والفريق الوطني ولعب دور المدرب الفهمان في إحدى تدويناته الشهيرة، وكتب عن أشياء أخرى كثيرة تافهة، لكن عندما تعلق الأمر بمأساة سيدة تقدم بها العمر وتقطعت بها السبل آخذ على وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي الاهتمام بقضيتها ونصح الجميع بالاهتمام بإحياء ذكرى الإسراء والمعراج.
ما جدوى إحياء هذه الليلة وإقامة الشعائر وإطلاق اللحى وإسدال الجلابيب إذا كانت هذه الشعائر لا تجعلنا نشعر بما تشعر به هذه المرأة من مهانة وألم، أليس الدين هو أن يتمنى الإنسان لأخيه ما يتمناه لنفسه؟
ولو أن هذه الواقعة حدثت عندما كان بوليف برلمانيا في المعارضة لكان طرحها في البرلمان لربح الأصوات في الانتخابات، أما وقد وقعت وهو كاتب دولة يرفل في حرير السلطة، بعدما قبل النزول من وزير إلى وزير منتدب إلى كاتب دولة، فتلك مجرد حركات بهلوانية لشغل الحكومة، مثلما قال الوزير الخلفي بوصندالة وهو يصرخ كالممسوس في برنامج «قضايا وآراء» عندما أثار أمامه صحافي قضية الطفلة إيديا التي ماتت في تنغير بسبب غياب العناية الطبية، فاعتبر الأمر مجرد مزايدات.
هكذا أصبحت مشاكل الناس بنظرهم مزايدات بعدما تاجروا بهذه المعاناة ووصلوا للحكم.
إن أخطر شيء يمكن أن يقوم به وزير ليس هو إخلاله بمسؤوليته وتقصيره فيها، بل هو الاستخفاف بمشاعر الشعب وازدراء معاناتهم، وهذا ما قام به الخلفي بالضبط.
والواقع أننا لا ندري لماذا يصر بوليف على أن يعذبنا وأن يفسد علينا في كل مرة ثلاثاءنا، إذ كلما تجشأ لغوه الأسبوعي الذي يسميه حديثا، كلما استشعرنا هول الهوة السحيقة التي تردت إليها السياسة بالمغرب، حيث ابتلينا بهذه الطينة من الوزراء غريبي الأطوار من المنافقين والمتحذلقين في الكلام حد السفه، المتاجرين بالدين وبالسيرة النبوية الشريفة، من أمثال بوليف ومن وحذا حذوه.
ويبدو أن وزراء العدالة والتنمية في الطبعة العثمانية قد فقدوا الذوق وأصبحوا يزايدون على بعضهم البعض أيهم أكثر استغلالا للإسلام وللنبي الكريم في استبلاد المواطنين والاستعلاء عليهم.
فبعد تدوينات صلح الحديبية لسليمان العمراني وعبد الله بن أبي سلول وغلامي المدينة المنورة ليتيمهم في التشغيل، ها هو كاتب الدولة بوليف يسيء لذكرى غالية لدى كل المسلمين، ذكرى الإسراء والمعراج التي وصل فيها الرسول الكريم لسدرة المنتهى.
لكن بوليف من فرط سقطه وتهافته على المقدس اجتهد ليبلغ منتهى قلة الذوق الفكري حين زايد بهذه الذكرى الجليلة على آلام وهموم وجراح المظلومين والمكلومين من بسطاء وضعفاء الشعب.
لم يهضم بوليف أن يكون للأم «عيشة» ذلك التضامن الواسع من كل فئات المغاربة، وأن يكون حول مأساتها ذاك الإجماع والتعاطف الشعبي، فاستبد به الحنق على ضعيفة مهانة لاحول لها ولا قوة دعتها ظروف عيشها القاسية، وبالخصوص جور الحكومة التي هو عضو بها، إلى تسلق عمود كهربائي، فعاب عليها أن تشغل الناس عن الإسراء والمعراج، وعاب على الناس أن تشغلهم عن دينهم هذه البائسة التي غلبها الزمن، كان التنفيس عنها وعن مثلها ليس من صميم الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، أو لكأن بوليف أصبح وصيا وحارسا لدين المغاربة الذي تهدده مسنة لا حول لها ولا قوة.
لو أن الوزير نجيب تأمل الوضعية التي كانت عليها الأم عائشة لفهم أنها كانت بدورها بصدد عروج يائس نحو السماء لتشكو إلى صاحب الدين ما فعل بها وبأمثالها تجار الدين كبوليف.
لقد كانت بصدد الفرار من جحيم السياسة الحكومية التي لا تلتفت للضعفاء، يشغل وزير فيها الناس عن محاسبته في الدنيا باستدعاء الآخرة كل ثلاثاء.
بوليف الذي نسي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال «رحم الله امرءا عمل عملا فأتقنه»، وعوض أن يتقن بوليف عمله، الذي يتقاضى عليه أجره الخيالي ناهيك عن امتيازات المنصب، تحول من وزير إلى واعظ
ومن اقتصادي إلى مدون يخربش الهراء في الفضاء الأزرق، تاركا طرق المملكة تحصد الأرواح كل يوم في قطاع للنقل هو أقرب للفوضى منه لأي شيء آخر.
لقد كان على هذا الوزير المتعجرف الذي ينظر للمغاربة من فوق بحاجبيه المقوسين أن ينشر تدوينات ذات طابع اقتصادي، أو أن يتحدث لنا عن خطط التنمية وعن محاربة البطالة ورفع الدخل حتى لا نخجل من أنفسنا أمام مآس كمأساة «مي عيشة»، لنتعرف على تكوينه العلمي، ومستواه الأكاديمي الحقيقي.
لكن يبدو أن جعبة بوليف فارغة في هذا المجال ولذلك يداري بؤسه المعرفي وعجزه العلمي ويراهن على ذر الرماد في العيون من خلال التحول إلى فقيه يلقي الدروس والمواعظ ويوصي المواطنات والمواطنين بالصبر والزهد وتأجيل تطلعاتهم في الحياة الكريمة إلى الحياة الأخرى، هو الذي عندما أراد أن يزوج أحد أبنائه فعل ذلك في أفخم الفنادق وصرف عشرات الملايين على الموائد التي حملت ما لذ وطاب من أصناف المأكولات والمشروبات.
بوليف وهو يستغل الدين بهذه الطريقة الفجة يعطي صورة سلبية عن الإسلام ويسيء إليه من حيث يدري ولا يدري.
ألم يقرأ عن صحابي اسمه أبا ذر الغفاري ثار في وجه من يكنزون الذهب والفضة في زمنه، مثلما يصنع اليوم بوليف وزملاؤه في الحزب ممن يراكمون التعويضات والامتيازات، وقال «عجبت لمن لا يجد قوتا في بيته كيف لا يخرج على الناس شاهرا شاهرا سيفه»، وكأنه لم يقرأ الإمام علي الذي قال «كاد الفقر أن يكون كفر»، ولم يسمع كيف كان عمر بن الخطاب يخاف أن يسأل عن بعير عثر بأرض العراق. وها قد عشنا حتى أتانا وزراء كبوليف، يتخفون في رداء الإسلام ويقولون إنهم يستلهمون عصره الذهبي، يتهكمون على امرأة مسنة، امرأة دفعها الظلم إلى محاولة الانتحار من فوق شاهق كهربائي.
ألم تقرأ أسي بوليف كيف أن عمرا قضى ليلة كاملة وهو ينفخ في النار ليطهو الطعام لأيتام أرملة، بينما أنت تريد أن تتهم هذه العجوز اليائسة بأنها أصل الشرور وأنها من يبعد الناس عن تدبر أمور دينهم.
هذا هو الإسلام الحقيقي المنافح عن الكرامة الذي لا يفهمه بوليف لأنه لا يرى في الدين إلا مصعدا طبقيا يمكنك من الفتات ومن حطام الدنيا الذي يوصي به في أحاديث الثلاثاء أمثال «مي عيشة» بأن لا يلتفتوا إليه.
لو كنت تقيا كما تريد أن توهمنا لما تكالبت على الوزارة مرة أخرى وأنت تعلم أن حصيلتك السابقة سواء في الشؤون العامة أو في النقل مجرد أصفار إلى الشمال، ولتعلمت الإيثار ولآثرت «مي عيشة» على نفسك وقمت بالمساهمة في حل مشاكلها دون أن تعلم يدك اليمنى ما قدمت يدك اليسرى، أو لأثرت قضيتها في المجلس الحكومي عوض أن تستغلها لتطل بكل ذلك الاستعلاء من خلال تدوينتك.
والحقيقة لو أن بوليف اطلع على الإسراء والمعراج كما نصحنا بذلك لكان اطلع على تلك المرأة التي ذكر الرسول الكريم في رحلته الربانية تلك أنها دخلت النار بسبب هرة، ولبكيت لحالك أنت الذي لم تحرك فيه امرأة مسنة تسلقت عمودا لأن مظلمتها لم تجد آذانا صاغية في حكومتك، ولخشيت أن تدخل النار بسبب هذه المرأة.
ولكن يظهر أنك لا ترى النار إلا من نصيب غيرك ممن هم خارج جماعتك، وهذه مصيبتكم، فأنتم تعتبرون أنفسكم مبشرين بالجنة وغيركم صالون النار.
لم تكن مأساة «مي عيشة» لتكون لو لم يكن عندنا أمثال بوليف من الوزراء الفاشلين الذين لا يكتفون بضعف الأداء فيضيفون إليه نزقا وطيشا وخفة لا تليق بمنصب وزير.
عندما يسخر كاتب دولة ووزير بهذه الطريقة المستفزة من مآسي الشعب ويتنصلان من دورهما المفترض في إيجاد مخرج لها فهما كمن يرمي الملح على الجرح ويصيب الزيت على النار ويدفع في اتجاه الفتنة.
ومن هنا فمطلب إقالة كاتب الدولة نجيب بوليف ووزير العلاقات مع البرلمان مصطفى الخلفي من الحكومة مطلب ملح ويصب في المصلحة العامة وحفظ الاستقرار، فالمغاربة يتحملون كل شيء إلا السخرية من مآسيهم واحتقار معاناتهم من طرف مسؤوليهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى