الرأي

بين الأمس واليوم.. لا شيء تغير

بالأمس القريب تفتّقت عيوننا المعمشة على العفونة والفساد والفوضى التي يحكمها قانون المال والزبونية والمصلحة الخاصة، وجدنا آباءنا مطأطئين رؤوسهم يخشون من الحيطان ويحذّرون من آذانها الجلادة، ووجدنا إخوتنا الكبار الذين ورثنا عنهم بؤس الكراسة والملابس المستعملة، يائسين وحاقدين على البلاد، يلعنون السلطة والبيروقراطية والانتهازية، يفكرون في المتاجرة بالمخدرات أو السرقة أو ركوب أهوال البحر نحو المجهول، والذين لم يفكروا في شيء، فكر فيهم ذلك الفعل الجبان الذي يتطلب الكثير من الشجاعة، فشجبوا أعناقهم على تل البحر أو تحت شجرة قصيرة.
وجدنا الناس متذمرين يسخرون من لعبة الانتخابات ويمقتون السياسيين ويصرخون بأعلى حناجرهم في الاجتماعات للمطالبة بكثير من الإصلاحات، وفي المساء عندما يحفون الموائد الشهية ويسخنون بطونهم وجيوبهم يتنكرون حتى لأبنائهم. وجدنا المواطن في صراع مع نفسه من أجل كسرة خبز حاف، ومع المخزني الذي يبتز في واضحة النهار ويلعن فوق ذلك بألفاظ بذيئة، ومع السياسي الذي يَعِدُ الكادحين بلبن العصفور وزبد السلمون وأطباق الكافيار، وعندما ينجح يقدم لهم روث البهائم، ومع الموظف الإداري المتكاسل والمماطل الذي ينظر في الناس شزرا ويذكرهم بأنه لا يعمل عند أبيهم، ومع القاضي الذي يتواطأ مع المحامين لمص دماء السُّذج، ومع شركة الماء والكهرباء التي تقلي الناس على حمم بركانية وتزرع في نفوسهم الرهبة والأرق.
وجدنا المواطن في صراع مع الحكومة. يمقتها بشدة. يحملها كل صغيرة وكبيرة. حتى وإن انزلقت رجله على قشرة موز في شارع بهي يلوم ويلعن الحكومة، لأنها لم تعلم الناس الأدب ومبادئ الفضيلة والأخلاق. لم تجبلهم على حب الوطن بصدق. لم تعلمهم كيف يحبون الكتاب ويكتبون قصيدة متأثرة بأديب محبوب. لم تعلمهم الإخاء لئلا يتقاتلوا ويتصارعوا كالثيران على مرأى من العامة التي لا تحرك ساكنا وكأن أعصابها في ثلاجة. لم تعلمهم المساواة وألا فرق بين ابن وزير وابن فقير، حتى لا يقهرهم الميز والتطاوس ويستسلموا لأمراض نفسية. لم تعلمهم المحبة حتى لا يكيل أحد لأخيه الضغينة والحسد ويطعنه بالوشايات والأحاجي ويؤمن بأن المصلحة الشخصية فوق كل اعتبار. لم تختر لهم السياسيين الأكفاء والغيورين على تربتها لفرشها بالخصب والحياة لا بالأشواك والمسامير. لم تعلمهم بأنهم جيل المستقبل الذي ينعش البلاد ويسقي بذورها حتى تزهر.
واليوم كالأمس لم يتغير شيء. سرنا إلى المدارس حفاة عراة بالأحذية البلاستيكية العطنة المتشظية التي تصدر أزيزا ورعدا حين يغزوها الماء، وحملنا محافظ من أكياس الأسمدة العضوية بكل فخر لأننا وجدنا آباءنا يحمدون الله على الصحة وخبز الذرة والشاي، عوض نبتة ايرني والعسلوج والفطر قبل وبعيد الاستقلال، وآمنا بحكمة أن الفقر قسمة ونصيب وأن من محاسنه لا يجلب أصدقاء مصلحة. لكن لا يعقل أن يستمر البؤس في زمن التكنولوجيا المتطورة، يتلهى الناس بوسائل التواصل الحديثة وهم لا زالوا يقبعون في الوحل والطين وما زال أبناؤهم يقطعون المسافة الفاصلة بين طنجة والطواحين الهوائية بطريفة ليصلوا إلى مدارسهم ويغطوا في نوم عميق.. وما زالت أسر تعاني العزلة بسبب التساقطات المطرية والثلوج، وما زالت الطرق تنجرف وتنعدم المواصلات عندما تسقط الأمطار، وما زالت أسر تعيش بسليقة الأمازون؛ تزوج القاصرات بالفاتحة في الأسواق وتطلق بالصلاة على النبي، وتكره المرأة على الحرث في الأحراش والسوط على ظهرها كما لو كانت بهيمة.. وما زال عهد «السيبة» في الأحياء الخلفية بواضحة النهار، وما زالت تنفق أموال باهظة على انتخابات صورية، وما زال الشارع حافلا بالمتسولين والمعتوهين الذين تلفظهم المستشفيات وتعبئهم في الحافلات التي توزعهم حسب خطوطها، وما زال النصابون يستغلون التسيب والتشظي والانحلال… وكم مما زال لا يزال يخنقنا وسيظل يخنقنا لأن لا شيء يبعث على الطمأنينة. كل شيء يقول إن الغد سيكون أسوأ من اليوم والأمس، وإن المواطن سيظل يُسْتَغَل والهراوة فوق رأسه كما لو كان حمار الطاحونة. سيغشون عيونه بالحرير المعطر بالزهر وسيظل عالقا بالرحى يدور في حلقة مفرغة، تندهه أصوات جاهلة فاشلة، لا تكرس سوى لطابع استبدادي هجين.
فيا أيها المرضى الكهل ارأفوا بهذه البلاد، يكفي مصا واستنزافا، وانصرفوا سامحكم الله لتنعموا بشيخوختكم في اليُخُوت والضيعات الرنانة ! سلموا مفاتيحها لجيل لم يتأثر بعقد الجلوس على القنينة، ولم يخرج لاقتناء علبة شاي فقُبض عليه بالصدفة ليلة فاستحال مناضلا، ولم يخاصر شقراء في «السوربون» فحلم بالاستوزار. نحن ندرك أنه لا يوجد عندنا سياسيون ولا مثقفون، وإنما يوجد عندنا مرتزقة. كل واحد بثمنه. وكل رخيص بات معروفا في بورصة النذالة.
هناك سؤال يطن في ذهني لطالما حيرني: ألا يمكن إلقاء القبض على المسؤولين الملاعين اللصوص والمتلاعبين بشؤون هذه البلاد، قبل أن يفكروا في ذلك؟ ألا يمكن إنشاء فرقة مختصة في إجهاض القرارات الطائشة وعمليات الاختلاسات الكبيرة التي يكون أبطالها أسماء وازنة قبل أن يفكر المختلس في ذلك؟ أم أنه ما زال في هذا الزمن من يخشى من وضع يده في عش الدبابير؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى