الرأي

تأملات في السلوك الانتخابي للمواطن المغربي

تحاول البرامج الإعلامية واللقاءات الصحفية أن تفسر السلوك الانتخابي للمواطن المغربي، رفقة مجموعة من الباحثين والفاعلين السياسيين، في ظل غياب دراسات علمية متفحصة، عادة ما تتكفل بها في الأنظمة الديمقراطية العتيدة مراكز مختصة في توصيف ودراسة السلوك الانتخابي للمواطن، وتعتمد في ذلك على مناهج بحث خاصة وتقنيات ذكية في متابعة ومراقبة وترقب المزاج العام للمواطنين إبان الحملات الانتخابية، وبهذا فإن كل ما يتقدم به المشاركون في مثل هذه البرامج أو ما يكتب في الصحف يظل مجرد شهادات من واقع الحال تتداخل فيها الانطباعات والأحكام المسبقة والآراء الشائعة، رغم توظيفها للإحصائيات الكمية، لأنه توظيف فج يفتقد إلى الاحترافية العلمية. فتظل تلك الإحصاءات العددية مجرد أرقام توهم المستمع والقارئ بأن ثمة مشروعية علمية تمنح للأحكام الصادرة مصداقية التصديق والاعتماد والتداول.
وحتى لا نسلك طريقهم في تقييم السلوك الانتخابي للمواطن المغربي، سنخضع بعض الاصطلاحات التي جرى تداولها على لسان مجموعة من الفاعلين السياسيين والباحثين في دراسة الحياة الانتخابية للمواطنين المغاربة، لتأملات افتراضية تفتح الطريق للبحث العلمي في هذا المجال: مجال سوسيولوجيا الانتخابات وأيضا تثير بعض الإشكالات التي ترتبط بالفلسفة السياسية كإشكالية الحكم والسيادة والتدبير.
من بين تلك الاصطلاحات: التصويت السياسي والتصويت العقابي.
هناك من رأى أن اكتساح حزب العدالة والتنمية للحواضر المغربية راجع إلى وعي المواطن الحضري بالمصداقية الأخلاقية للحزب في تطهير مرافق الجماعات المحلية من الفساد الذي ينخرها، والذي انعكس سلبا على التسيير والتدبير الجماعي للمدن، وظل المواطن هو المتضرر الأكبر في ذلك. وبهذا، فإن المواطن المغربي في العالم الحضري، والذي ينتمي في الغالب إلى الطبقة المتوسطة، مارس سلوكا سياسيا واعيا.
أما التصويت العقابي فهو يعود في نظر أغلب القائلين به إلى رفض الناخب المغربي للوجوه التي فاح ريح فسادها وصار يزكم النفوس ولا يشرف مدينتهم أو جماعتهم، ولا يستحيي منهم أحد وهو يتكلم عن العفة والطهارة والأمانة والإخلاص، وينثر الوعود يمينا ويسارا دون رقيب ضمير العقل أو حسيب إيمان القلب، ناسيا أن المواطن يتآكل يوميا من سوء الخدمات وضعف بنيات الاستقبال في كل الأصعدة الحيوية في المجتمع، ومتناسيا أن الرداءة والابتذال تستشري في أوصال مدينته استشراء النار في الهشيم. لقد كان يمثل هذا المرشح في أنظار الناخبين المغاربة البهلوان الذي لا يضحك الناس بمواهبه الفنية بل يضحك الناس لأن الأصباغ التي تزين بها كانت رخيصة جدا تذوب على وجهه، وتلطخ ملابسه حتى اختفت ملامحه وصار أعجوبة الانتخابات أو مسخا بشريا.
إن القاسم المشترك بين هذين النمطين من السلوك الانتخابي هو: البحث عن «الفضيلة الأخلاقية» في التسيير والتدبير، أو في الممارسة السياسية عموما. وهنا، ينبغي أن ننتبه أن «الفضيلة الأخلاقية» في التسيير والتدبير، يترجمها الناخب المغربي في أن حزب العدالة والتنمية يتقدم بمرشحين غير فاسدين، ولا ينهبون المال العام ولا يعقدون الصفقات المشبوهة. هذه «الفضيلة الأخلاقية» المفقودة في أحزاب أخرى هي التي شكلت الرأسمال الرمزي لحزب العدالة والتنمية وجعلت عرضه السياسي مغريا ومقنعا.
وقد يتساءل البعض: ولكن هناك أحزاب لم يتم أبدا اختبار قدرتها في التسيير والتدبير، ولا يمكن الحكم عليها بالفساد أو خيانة الأمانة، وعلى سبيل المثال: فيدرالية اليسار الديمقراطي، ونحن نفترض أن الناخب المغربي في الحواضر المغربية على علم بجميع الأحزاب بحكم انتماء أغلبهم إلى الطبقة المتوسطة، وهذا مجرد افتراض وتخمين؛ هنا، يمكن فهم السلوك الانتخابي للمواطن المغربي من خلال اختياراته المحدودة بحدود التاريخ السياسي الراهن للديمقراطية المغربية الفتية وبحدود روح العصر أو مناخ العصر كما يقول سمير أمين، إذ أن التاريخ السياسي الراهن للمسار الديمقراطي في المغرب شهد نقلة نوعية مع حكومة التناوب التي قادها عبد الرحمن اليوسفي استثمارا للرأسمال الرمزي النضالي التقدمي الذي ألهب المواطن المغربي التواق إلى الحرية والكرامة، فهو من اليساريين المغاربة الذين راكموا تاريخا نضاليا لا يقاس أبدا بالتاريخ النضالي لزعماء اليسار الجدد إن استثنينا بالطبع بنعمرو الذي ليس وجها انتخابيا مألوفا لدى المواطنين المغاربة، هذه النقلة النوعية ظلت مجرد حدث تاريخي يهتم به المؤرخون في كتابة التاريخ السياسي المعاصر ولم تشكل ثورة حقيقية في التفكير والتدبير والسلوك السياسي للدولة، تظل مشرقة كومضة نور تسطع على الأجيال القادمة، كما أنها لم تترسخ في صورة محكيات سياسية كبرى مؤسسة للمخيال الاجتماعي والثقافي والسياسي للمملكة المغربية الجديدة في عهد الملك محمد السادس. وخصوصا، أن فترة حكمه الوزاري تزامنت وتولي الملك محمد السادس العرش. بل، استعاد الملك الشاب روح المبادرة السياسية التي أطلقها الملك الراحل الحسن الثاني منذ بداية التسعينات في تحرير المجال العام من السلطوية وتطعيم النظام السياسي بثقافة حقوق الإنسان. وتبدد سحر اليسار البديل، فانتكست معنويات المواطن المغربي وانطفأت شمعة أمله واستبد فشل اليساريين في تحقيق المغرب الجديد مغرب الكرامة والعدالة الاجتماعية، مغرب العلم والمعرفة، مغرب الحرية والإبداع بنفوس المغاربة فصار اليسار والاشتراكية سبة على لسانهم في انتظار «المهدي المنتظر» الذي سيخلصهم من المسيح الدجال.
لم يكن عرض وتحليل البرامج الانتخابية للأحزاب هو سيد الموقف في الحملات الدعاية الانتخابية، ولم تكن مناقشتها في مناظرات بين الفاعلين السياسيين هي أولوية الأولويات كما كان الأمر دائما في الانتخابات السابقة بل جرت الحملات الانتخابية في ظل مناخ مشحون بالنزاعات الفردية والتلاسن والتنابز بالألقاب والخصومات الشديدة التي توحي بأن المعركة ضد جبهة الفساد معركة أدبية وأخلاقية وليست معركة سياسية على برامج للتنمية البشرية والمادية، خصوصا أن جبهة الفساد أصبحت مشخصنة في أفراد بعينهم. وربما من مكر الديمقراطية هو أن كل من يتجاوز أدبياتها في العمل المؤسساتي الجماعي ويحاول شخصنة الحزب في شخصه وشيطنة معارضيه ليختزل مبادئ وقيم الحزب النضالية في إرضاء المصالح الضيقة للأعيان المقربين، إلا وقد نمى من حيث لا يدري رصيد الخصوم الذين يجيدون جيدا في دعواتهم وصلواتهم لعنة الشيطان وذم الإبليس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى