الرئيسية

تجربة تعريب المواد العلمية في التعليم الثانوي نجحت وقدمت أرضية صالحة للتدريس باللغة العربية

من العبث العمل على تنمية مجتمع ما وتعميم المعرفة العلمية عليه بلغة لا يفقهها إلا أقل من 10 بالمائة من سكانه

موضوع التعريب من الموضوعات التي ينبغي أن تدور حولها دراسات متعمقة لحيويتها في مستقبل وطننا الحبيب الذي لا يمكن أن تتجاوز مشكلاته إلا عن طريق تعريب المعاصرة تعريبا حقيقيا عن طريق صنع القدرة الذاتية عليها باستنباتها في أرض اللغة العربية، ورأس ذلك كله هـو تعميم التعليم، فـي كل أنواعه باللغة العربية التي تكون في الوقت لغة الإعـلام والتنظيم الإداري والمالي والتشريعي والبحث العلمي كما هو الحال في الدول المتقدمة.
ينبغي أن نؤمن بمشاركة اللغة العربية باقي اللغات في الوظيفة الخامسة أي البحث العلمي. ونكمل مسيرة تعريب العلوم في المستوى الجامعي فخطوات الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة، أو كما قال أحد الزعماء السوفيات: «من أجل تحقيق خطوة واحدة إلى الأمام، لا بأس من فعل خطوتين إلى الوراء، إن اقتضى الأمر ذلك. وخاصة أننا لن ننطلق من فراغ وإنما المغرب راكـم تجربة كبيرة في هذا المجال حيث منذ حصوله على الاستقلال وهو يولي اللغة العربية كامل عنايته فأنشأ معهد الدراسات والأبحاث للتعريب عام 1960، ونظم أول مؤتمرله سنة 1961 انبثق عنه مكتب تنسيق التعريب في العالم العربي وقام هذا المركز بدوره خلال عمره الطويل، بأنشطة كبيرة في جمع الكثير من المصطلحات وتنسيقها وتنظيمها في معجمات متخصصة عديدة يقول الدكتور محي الـدين صابر: «وفي هذا المجال يمكن الإشارة إلى أن عدد المعاجم التي أعدها مكتب تنسيق التعريب بالرباط التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بلغ 24 معجما موحدا وافقت عليه المؤتمرات: الثاني والثالث والرابع، وأن هناك عشرين معجما آخر سوف يعرض على مؤتمر التعريب الخامس…وتابع قوله: «وبلغ عدد الكتب الطبية المترجمة من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية في خلال عشر سنوات 1970_ 1980 ستا وستين كتابا…إلخ» . ثم توالت بعض المحاولات الفـردية في المغرب تعريب الطب» ولعـل أبرز مـن قام بالتنظير والتحضير لمسألة تعريبه الأستاذ السابق بكلية الطب بفاس أمل العلمي، إذ بـذل الرجل مجهودات طيبة بالتنسيق مع المكتب الجهوي لمنظمة الصحة العالمية وأصـدر كتبا ووثائق ومقـالات في محاولات لتأسيس لبنات تهيئ لمشروع تعريب الطب فـي المغرب». وزادت فـي الآونـة الأخيرة الرسائل والأبحاث العلمية حيث بلغت عـدد أطروحات الدكتورة التي نوقشت باللغة العربية حتى الآن 10 أطروحات بكل من كليات الطب بالعاصمة الرباط، الدار البيضاء، وفاس» وقال أحد الأطباء وهـو عدنان العلوي الإسماعيلي بعـد مناقشة دكتوراته باللغة العربية حـول موضوع» الطب المجتمعي والصحة العمومية» والكلام بالجريدة نفسها قوله: « على أنـه لا مبرر للاستمرار فـي التدريس باللغة الأجنبية، خاصة وأن المصطلحات العلمية في التخصص لا تتجاوز 3/، فيما الباقي عبارة عن لغة للتواصل والشرح «.
ثم اتسعت بعد ذلك رقعة التعريب بالمغرب لتشمل التعليم الابتدائي والثانـوي واستمرت التجـربة أربعين سنة متواصلة فـي تعريب المواد العلمية، من حساب وهندسة وجبر وعلوم طبيعية وفيزيائية وكيميائية. اكتسبت فيها العربية ثروة هائلة من المصطلحات والألفاظ. وتخرج على مدى أربعين سنة على انطلاق مشروع تدريس المواد العلمية بالعربية 29 فوجا من حاملي البكالوريا العلمية بالمغرب، وبعد أن اتسعت دائـرة الأمل في سياسة لغوية مندمجة تحفظ الهوية اللغويـة للمغاربة « وعوض السير إلى الأمام واستثمار هذه التجربة المهمة بخطوات حثيثة نحو تعريب التعليم العالي وجـدنا أنفسنا نعود إلى الوراء ونعيش حالة فوضى لغوية عارمة لذلك أعتبر أن التراجـع عـن التعريب في المغرب مأساة كبرى ولا سيما أن هذا التراجع جاء بعد ثلاثين عاما من تجربة التعريب التي أريد لها الفشل، ولو أريد لها أن تنجح لنجحت».
تجربة تعريب المواد العلمية في التعليم الثانوي الإعدادي والتأهيلي في المغرب نجحت وقدمت أرضية صالحة للتعريب، من حيث الأطر والكتب الدراسية، وقدرة استيعاب التلاميذ للمواد العلمية باللغة العربية. وما عادت المصطلحات تمثل عائقا فـي تدريس تلك المواد وفهمها والتفاعل معها، ولكـن أعداء العربية حكموا عليها بالفشل وبخصوص المبررات التي ساقها هؤلاء، مردود عليها من قبل أهل الاختصاص. تقول خبيرة اللسانيات الاجتماعية وديداكتيك اللغات، يمنة القراط العلام في حوار مع جريدة «العمق» إن الاستعجال هو السبب الرئيس في فشل منظومة التعليم بالمغرب، موضحة أن المغرب لا يتوفر على رؤية متكاملة للتعليم، ورأت الخبيرة في التراجع الذي وقع في 2016، لما قام المجلس الأعلى للتربية والتكوين بالرجوع إلى اللغة الفرنسية، أنه يتضمن رسالة واضحة للمجتمع المغربي وهي الاعتراف أن التعريب قد فشل وأن عملية التعريب لم تكن ناجحة» مؤكدة قولها: «أنا أظـن من العيب أن نحمل فشل المنظومة التربوية للغة العربية…التعريب لم يفشل لأنه اعتمد اللغة العربية، ولكنه فشل بسبب عدم أخذ المسؤولين الوقت الكافي لتطويرالرؤية والبرامج وتهيئة المختصين، وإعطاء التكوين المستمر للأساتذة حتى يتعاملوا مع اللغة العربية، وقد عشت هذه التجربة».
أما الخبير عبد العلي الودغيري العالم اللساني المغربي في حوار له مع جريدة «هبة بريس» فيقول: «التعريب في المغرب لم يفشل كما يروج المغالطون. كان ناجحا في الابتدائي والثانوي، ثم أوقف عمدا كي لا يواصل نجاحه، وكي تكون هناك قطيعة مع المرحلة الجامعية يرفضها الناس…والدليل هو هذا العدد الكبير من المهندسين والأطباء وغيرهم من الأطر العليا التي تنجح وتتخرج في كل التخصصات، وأعداد أخرى تحصل شهاداتها بالمغرب ثم تهاجر لتشتغل في أوروبا وغيرها كل سنة باعتراف وزير التعليم نفسه (600 مهندس كل عام )…والدليل أيضا أن عددا من حاملي البكالوريا المغربية المعربة يجـدون مكانهم بسهولة في جامعات الدول الأجنبية أوروبا الشرقة وألمانيا وغيرهما…والدليل مرة أخرى هو المعدلات المرتفعة التي يحصل عليها التلاميذ في المواد العلمية بالباكالوريا، والمعدلات المرتفعة للقبول في المدارس العليا وكليات الطب والصيدلة. ومـع ذلك نتحدث عن فشل التعريب».
هـذه المقولة قد تبدو صحيحة في ظاهرها، ولكنها –بالقطع_مقولة مضللة عارية من الحق والصدق. ذلك أن هـذا العجز الظاهر في اللغة العربية إنما مـرده إلى القرار السياسي الذي أوقف التعريب عند نهاية التعليم الثانوي ولـم يتركوه يكمل مسيرته ونجاحه، حيث قوبلت «كل توصيات ومطالب تعريب التعليم العلمي العالي بالتجاهل والرفض، حيث أنهـي تكليف اللجنة الملكية لإصلاح التعليم سنة 1995، وظلت توصيات الميثاق الوطني للتربية والتكوين المتعلقة باللغة العـربية حبرا على ورق ومنها إحداث أكاديمية محمد السادس للغة العربية التي صادق البرلمان منذ 2003 على القانـون الخاص بها، وإنشاء شعب علمية اختيارية معربة في التعليم العالي رغم تقديم مقترحات مكتملة العدة البيداغوجية في هذا الشأن».
أما اللغة العربية كانت ومازالت من اللغات الحية السائدة في العالم العربي والإسلامي، بما يؤهلها للقيام بـدور فعال في خدمة مجتمعنا وأبنائنا بتيسير العلوم لهم وترغيبهم في تلقيها، لم تعجز في الماضي ولـن تكون عاجزة في المستقبل عن مجاراة التقدم العلمي الحديث.. وهي التي حملت أمانة الحضارة طوال القرون الوسطى ومنحتها جميع المصطلحات الإنسانية والتقنية والعلمية في عصر كانت فيه وسائل التواصل الفكري بين البلاد والمجتمعات شبه بدائية….فالعجز والعيب ليس في اللغة العربية ولكن في الأمة العربية. خصوصا وأن بعض البلاد العربية قـد خاضت التجربة، ولعـل سوريا من الأقطار العربية التي بـدأ التعليم العالي في جامعاتها باللغة العربية منذ عام 1919 حتى اليوم وفي كل فروع العلوم والتخصصات بقدرة ونجاعة.
إن مدخل التنمية المنشود هـو اللغة العربية. فليس هناك دولة متقدمة واحدة تدرس بلغة أجنبية. فالـدول الأوروبية والأمريكية، وكذلك المجموعة الأسيوية التي تستخدم فقط اللغات الوطنية هي الدول المتقدمة. أما الدول التي تدرس بلغة المستعمر، أو يوجد بها تعليم مزدوج، فيشهد واقعها الاقتصادي أنها ليست متقدمة. من حقنا أن نتساءل كمغاربة لماذا هذا التشبث باللغة الفرنسية وجعلها تحتل مواقع السيادة والريادة في مجالات التعليم والإعلام، والإدارات والمعاملات الحكومية، والمرافق الاقتصادية والتجارية والخدماتية.. ماذا حققت لنا هذه اللغة بعد مدة تقارب القرن من الزمن منذ 1912. في مجال التنمية، حقيقة لم تحقق شيئا يـذكر. والأمر مفهوم حتى عند الأقل ذكاء «والسر هو كون تعميم نتاج البحث والخبرة على المجتمع المغربي المنتج شبه مستحيل لكون الفرنسية ليست لسان المغاربة مـن جهة. ومن جهة أخرى لـم تعد لغة علم وما يكتب فيها أصبح لا يواكب البحوث العلمية الحديثة التي أضحى جـل مصادرها باللغة الإنجليزية «، وبالمناسبة فعلى المدافعين عن استمرار سيطرة اللسان الفرنسي على الوظائف العليا للسان أن يعرفوا أن نسبة مساهمة اللغة الفرنسية بين باقي اللغات في البحث العلمي لا تتعدى اليوم2.5…فمن العبث ومـن الوعي الشقي العمل على تنمية مجتمع ما وتعميم المعرفة العلمية عليه بلغة لا يفقهها إلا أقل من 10/ من سكانه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى