دين و فكر

تفسير سورة الفاتحة (2)

د. عبد الجليل العبادلة
سورة الفاتحة من السور المكية، وهي من أوائل ما نزل من القرآن الكريم. وإنما سميت بالسبع المثاني والقرآن العظيم لأنها تُثنّى في كل ركعة من ركعات الصلاة لما تحمله من الثناء على الله على ما قيل. لكن الذي وقفت عليه من أقوال المحققين إجماعهم على أن السبع المثاني هي الصفات السبع الواجبة لله تعالى من السمع والبصر والحياة والقدرة والإرادة والكلام والعلم وهي الصفات الثبوتية الواجبة لله تعالى. والذي أراه أنه لا خلاف في ذلك حيث مظاهر تجليات هذه الصفات قائمة في هذه السورة، فإن اسم الإلوهية لا ينفصل عنها وهي لا تنفك عنه، فعلم الأسماء الإلهية خص الله به آدم عليه السلام حين سوّاه ونفخ فيه من روحه، فكان بقيام هذه الروح الإلهية فيه الجامعة لعلم الأسماء كلها. والأسماء لا تنفصل عن مسمياتها وحقائقها، فإن الفاتحة التي خصّ بها النبي صلى الله عليه وسلم من الكنز الإلهي العرشي، حيث أوتي حقائقها وأعطي أرواح كلماتها، فكانت جامعة لمظاهر تجلي الصفات، فضلا عن تجليات حضرة الذات المتمثلة في هذه الأسماء الثلاثة: الله، الرحمن، الرحيم. ومن هنا نرى في البسملة التي هي آية من آياتها السبع المتضمنة لكل ما حواه القرآن الكريم على ما تواردت عليه أقوال المفسرين، فهي عنوان الصراط المستقيم في كل ما تضمنه الكتاب الكريم من عقيدة وشريعة ومُثل عليا ومكارم أخلاق. ذلك أن الله جل جلاله قد جعل من مجرد ذكرها سبيلاً لنيل مرضاته وسبباً لتطهير كل ما ذُكرت عليه من كل الآفات والظلمات، حتى من المتكلم بها إذا تمثلها حقا وكان ناطقا بها صدقا. ففي الحديث «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر» وفي الحديث الآخر «إن الله ليَرضى عن العبد أن يأكل الأَكلة، فيَحمده عليها، أو يشرب الشَّربة، فيحمده عليها». وإذا كان البعض من الأئمة لم يعتبرها آية من كل سورة ومنها الفاتحة، فإن الوارد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها آية من كل سورة، فوجهة نظرهم أنها آية فذة أنزلت للفصل بين السور، وان كانت في حقيقتها الجمعية هي أجمع من كل سورة من سور القرآن الكريم. فكل سورة هي من مشكاتها تنزلت وعن بعض أنوارها وأسرارها قد أعربت. أما سورة الفاتحة فالتنصيص من بعضهم على أنها آية منها على وجه الخصوص، فلأنها الجامعة للمنهج والغاية التي بالتحقق بها يكون تمام الكمال الإنساني الذي به يكون في أقصى درجات العبودية التي هي الدرجة الرفيعة التي انفرد بها من تنزلت عليه صلوات الله وسلامه عليه، حيث بها كان أول العابدين فإنه ما عبد الله بنفسه أو بوسيلة من الوسائل أو بغاية من الغايات دون التمثل ببسم الله الرحمن الرحيم. ولذلك كانت كل حياته بدقائقها وثوانيها وما يصدر عنه فيها مصبوغة بهذه الصبغة الروحانية لهذه الأسماء الإلهية، فكان ربانيا صرفا.
وإذا كان المطلوب من كل ما يصدر عن الإنسان ممثلا بسم الله الرحمن الرحيم، فإن أحدا لا يستطيع أن يمثل اسم الله بما يحمل من الأنوار والأسرار والأثقال إلا من تنزلت عليه روح هذا الاسم واستوى على عرش قلبه بما يحمله من الأنوار والأخلاق والآداب وما له من سر الخصوصية التي انفرد بها عما سواه. فمن هنا كانت حقيقة الدين منحة إلهية وخصوصية ربانية لا تتحقق إلا بالطهارة الكلية من كل المؤثرات على سير الإنسان وسلوكه وكافة ما يصدر عنه، فيكون من المخلصين لله حيث لا شائبة تشوب أعماله من كل النوايا والغايات البشرية والمؤثرات النفسية والخارجية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى