دين و فكر

ثلاثية الخروج والخوراج والبغاة (1)

إلياس بلكا

نستأنف بإذن الله إصدار ملحق دين وفكر في صحيفة «الأخبار». ونعود مرة أخرى إلى سلسلتنا السابقة: «آفاق جديدة في البحوث الإسلامية»، لكن بوجه جديد يركز على القضايا الشائكة في تاريخنا الإسلامي، وعلى القضايا المشكلة في حاضرنا، ممّا له صلة بعلومنا وتراثنا وحضارتنا. وأول حلقة في هذه السلسلة هي عن «ظاهرة الخوارج».
بداية تكمن المشكلة في الاصطلاح، فالناس تتحدّث عن الخوارج، لكنها لم تُعرّف هذه الطائفة بحدّ واضح منضبط. لهذا يقع الخلط والغلط. وقد راجعت بعض كتب الفرق فوجدتها قليلة العناية بالمسألة، إلا ما كان من ابن حزم والشهرستاني، قال ابن حزم في كتابه «الفصل في الملل والأهواء والنحل» في باب «ذكر ما اعتمدت عليه كل فرقة من هذه الفرق فيما اختصت به»:
«أما الخوارج، فعمدة مذهبهم الكلام في الإيمان والكفر، ما هما؟ والتسمية بهما، والوعيد، والإمامة. واختلفوا فيما عدا ذلك، كما اختلف غيرهم» وأنت خبير أن الخوارج لم تختص ببحث هذه القضايا، بل ذلك في جميع الفرق. ثم قال بعد أسطر: «ومن وافق الخوارج في إنكار التحكيم، وتكفير أصحاب الكبائر، والقول بالخروج على أئمة الجور، وأن أصحاب الكبائر مخلدون في النار، وأن الإمامة جائزة في غير قريش، فهو خارجي، وإن خالفهم في ما عدا ذلك في ما اختلف فيه المسلمون. وإن خالفهم فيما ذكرنا فليس خارجيا» فهذه شروط أربعة: إنكار التحكيم (أي الذي جرى في عهد علي رضي الله عنه)، وكفْر أصحاب الكبائر مع خلودهم في النار، والخروج على أئمة الجور، والإمامة في غير قريش. ومفهوم كلام ابن حزم أن سقوط شرط واحد يخرج أيّ جماعة حالُها مشتبه عن الخوارج، مع ملاحظة أن أكثر فقهاء السنة هجروا هم أيضا شرط القرشية في الإمامة منذ زمان، بمعنى أنهم صاروا إلى بعض قول الخوارج القدامى!
أما الشهرستاني فعرّف الخوارج بقوله في كتابه الرائع «الملل والنحل»: «كل من خرج على الإمام الحقّ الذي اتفقت الجماعة عليه يسمى: خارجيا. سواء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين، أو كان بعده على التابعين بإحسان، والأئمة في كل زمان.» هكذا جعل الشهرستاني المعيار هو الخروج على الإمام العادل، وهذا ليس تعريفا للخوارج، بل هو أوْلى أن يكون تعريفا للبغْي. ويبدو لي –والعلم لله– أن تعريف ابن حزم للخوارج من أحسن التعاريف وأدقّها. أما ما ذكره الشهرستاني فلا ينطبق على الخوارج، بمعنى الفرق المعروفة من الأزارقة والنجدات ونحوها.
أما البغي فهو التمرد المسلح على الإمام الشرعي بتأويل، فالاعتراض المسالم ليس بغيا، كما أن حمل السلاح بلا تأويل، أي بلا شبهة نظرية وعلمية ليس بغيا كذلك، بل يُدرِجه الفقهاء في قطع الطريق، أي الإفساد في الأرض، والبغي هو المشار إليه في القرآن الكريم: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما).
لذلك يفترق البغي عن مصطلح آخر في تاريخنا هو الخروج، إذ الخروج ثورة، بالتعبير المعاصر، لكن على سلطة غير شرعية، وهي التي يشير إليها الفقهاء بقولهم: الإمام الفاسق أو الظالم أو المتغلب (على اختلافات وتفصيلات)، ولفقهاء أهل السنة منذ القرن الأول رأيان معروفان في حكم الخروج، لذلك خرج بعض العلماء وأحجم آخرون.
والنتيجة أنه يجب الفصل بين هذه الحالات الثلاث: الخروج، والخوارج، والبغي، مع أن الخوراج بغاة، لكن البغي مصطلح أعمّ، فالبغاة قد يكونون من أهل السنة أيضا، بينما الخوارج فرقة مستقلة. وهذا كله يحتاج لدراسات مستقلة، بعضها قائم وبعضها جارٍ الآن، والجميع غير كاف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى