الرئيسيةثقافة وفن

جائزة نوبل 2018 و2019 واللعب على حبلين

إعداد وتقديم: سعيد الباز
خيّمت الشكوك، في الآونة الأخيرة، حول مصير جائزة «نوبل» للآداب، بعد الانتقادات التي وجهت إليها عند تتويج المغني الأمريكي بوب ديلان، وبعد تأجيلها في السنة الفارطة بسبب سلسلة من الفضائح المالية والجنسية التي هزّت لجنة التحكيم.
هذه السنة قامت جائزة نوبل للآداب بالإعلان عن المتوجين عن السنة الماضية والسنة الحالية دفعة واحدة. بالنسبة لسنة 2018 تمّ تتويج الروائية البولونية أولغا توكارتشوك التي تعتبر أكثر الروائيين البولونيين حضورا في بلدها وأكثر غزارة في الإنتاج الروائي وتميزا على مستوى أوروبا الشرقية بصفة عامة. لذلك كان من اللافت للنظر فوزها بجائزة «مان بوكر» الدولية السنة الماضية عن روايتها «رحلات»، التي كانت، بلا شك، السبب في إلقاء الضوء على هذه الروائية التي تحظى في بلادها بشهرة كبيرة بفضل أعمالها الروائية ذات النفس الملحمي والتاريخي، خاصة روايتها «كتب يعقوب»، وكذلك بسبب مواقفها المثيرة للجدل ضدّ اليمين المحافظ أو الإشارة في تصريحاتها أو بعض أعمالها إلى أنّ بلدها، خلال تاريخه قديما وحديثا، ارتكب مذابح في حق الغجر واليهود.
الكاتبة البولونية تكاد تكون مجهولة عربيا، إذ لا وجود لترجمات لأعمالها سوى بعض المقتطفات النادرة، وهي في العموم كاتبة ذات توجه ليبرالي مع مسحة يسارية، لكن يبدو من مسارها الروائي المتنوع والغزير أنّها أفضل كتاب جيلها. أمّا بالنسبة لجائزة نوبل للآداب للسنة الحالية فقد كان صاحبها الروائي النمساوي بيتر هاندكه، الذي تمّ تداول اسمه مرات عديدة، لكن مناصرته لصربيا وزعيمها القومي المتطرف ومجرم الحرب سلوبدان ميلوسوفيتش المتهم بالإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية في البوسنة والهرسك من قبل المحكمة الجنائية الدولية، جعلت الكثير من المتتبعين يستبعدون حصوله على الجائزة، لكن لجنة التحكيم خيبت كل التوقعات.
الروائي بيتر هاندكه له أسلوبه الخاص في كتابة العديد من الروايات الناجحة إضافة إلى مسرحياته وأعماله السينمائية. كاتب يفضل التكثيف والأسلوب المباشر واعتماد الصورة في التعبير عن أفكاره ومشاعره، فأغلب أعماله لا تتجاوز 80 صفحة ذات نفس قوي يشدّ القارئ دفعة واحدة. استطاع بيتر هاندكه أن يحوّل أوجاعه إلى موضوعات روائية، فهو مجهول الأب الكاره لزوج أمه التي ستنتحر هي الأخرى. هذه الآلام هي ما سيصفها في روايته بالشقاء العادي.
بالإعلان عن الفائزين الكاتبة البولونية المناهضة للتطرف اليميني في بلادها والكاتب النمساوي الذي ما زالت حملات الاستنكار ضده متواصلة بسبب موقفه الغريب والمستهجن في تبريره غير المقنع لجرائم الحرب في البوسنة والهرسك، هل تكون جائزة نوبل للآداب قد أخذت العصا من الوسط وحاولت اللعب على حبلين وترضية الطرفين معا، اليمين المتطرف الصاعد في أوروبا واليسار الذي مازال يحاول لملمة أشلائه.

أولغا توكارتشوك.. رحلات

درست علم النفس في مدينة شيوعية كبيرة وكئيبة. كانت شقتي تقع في مبنى استخدمته الشرطة السرية النازية كمقر خلال الحرب. ذلك الجزء من المدينة كان مبنيا على أنقاض الغيتو، وإذا نظرت جيّدا، تمكنك ملاحظة ارتفاع هذا الحي بثلاثة أقدام فوق بقية الأحياء في البلدة. ثلاثة أقدام من الأنقاض. لم أشعر بالراحة هناك أبدا، وبين المباني الشيوعية والساحات التافهة كانت هناك رياح دائما، وكان للهواء الفاتر طعم خاص بالمرارة، يلسعك في وجهك. في نهاية الأمر كان مكانا للموتى، بغض النظر عن كل محاولات البناء. مازالت لديّ أحلام متعلقة بالمبنى الذي كان يحتوي على صفوف الدراسة: ممراته الواسعة التي لطالما بدت منحوتة في الصخر، وقد هدأ دبيب الأقدام من روعها، الحواف البالية للدرج، الدرابزين المصقول بأيدي العابرين، آثار مطبوعة في الفراغ. ربّما لذلك كنّا مسكونين بتلك الأشباح.
عندما كنّا نضع الجرذان في متاهة، واحد منها فقط كان يناقض بسلوكه النظرية المعتمدة، فيرفض الاكتراث لفرضيتنا الذكية. قد يقف على رجليه الخلفيتين، غير مبالٍ إطلاقا بالجائزة في نهاية الطريق، مزدريا نظرية الإشراط البافلوفي، وقد يصوّب نظره نحونا لمرة واحدة ثمّ يستدير، أو يصرف انتباهه باتّجاه المتاهة متأملا إيّاها بلا عجلة. قد ينظر إلى شيء ما في الرواق الجانبي، محاولا جذب الانتباه. وقد يصدر صريرا مشوشا، بعد ذلك، الإناث تحديدا، بغض النظر عن الواجبات، كنّ يسحبن أنفسهن إلى خارج المتاهة. أما عضلات الضفدعة المفلطحة، فقد تنثني وتستقيم تبعا للنبضات الإلكترونية، لكن على نحو لم يتم شرحه بعد في كتبنا المدرسية. كانت تصدر إيماءة في وجوهنا، وأطرافها تعلن التهديد والتهكم، كما لو أنها تهدم إيماننا المقدس بالبراءة الميكانيكية لردات الفعل النفسية.
تعلمنا هناك أنّ العالم قابل للوصف، وحتّى التفسير، بواسطة إجابات سهلة لأسئلة ذكية. كما لو أنّ العالم في نواته كان خاملا وميّتا، محكوما بقوانين أسطورية كانت تحتاج إلى الشرح، والخروج إلى العلن، بمساعدة الرسوم البيانية إذا أمكن ذلك. نُصحْنا بالقيام بالتجارب، وباختراع النظريات لإثبات شيء ما. زُجّ بنا في أسرار الإحصاءات، عُلّمنا التصديق أننا نتسلح بهكذا أداة يمكننا أن نفهم كيف يعمل العالم، وأنّ 95 في المائة أكثر أهمية من الخمسة المتبقية. ولكن إن كان هناك شيء واحد أعرفه الآن هو أنّ أيّ أحد يرغب في فهم العالم، يجب عليه أن يفهم علم النفس. الذهاب إلى الفيزيولوجيا وإلى اللاهوت، بالمقابل، سيوفر دعما قويا في مسألة الروح، بدلا من تضاريس السيكولوجيا اللزجة. ثمّة ما يقوله الناس عن علم النفس، كاختصاص يختاره الناس ليس من أجل العمل، ولا بسبب الفضول أو امتهان مساعدة الآخرين. وقد اكتشفت أنّ للاختيار سببا واضحا ومحددا. أعتقد أنّ كل شخص لديه خلل خفي وعميق، ولكن، بلا شك، الجميع يحب أن يعطي انطباعا بالذكاء والحيوية. لكن الخلل يكون مبطنا ومموها بإتقان، عندما ندخل الامتحان. تنهار طابة المشاعر المعقدة بشدة، مثل تلك الأورام الغريبة التي تظهر أحيانا في الجسد البشري، وتمكن رؤيتها في أيّ متحف يعرض جثثا مشرّحة. ذلك يطرح سؤالا آخر: ماذا لو كان الناس الذين يديرون حياتنا من تلك النوعية، وكانوا يعرفون ما يقومون به فعلا؟ في هذه الحالة، سنكون ورثة على نحو مباشر. عندما ناقشنا في عامنا الثاني، عمل الميكانيزمات الدفاعية، وجدنا أننا نخضع لقوة جزء من روحنا، بدأنا نفهم أنّ الإنكار لم يكن للوصول إلى صورة واضحة وعقلانية، بل كان عبارة عن ألاعيب صغيرة سمحنا لأنفسنا بأن نلعبها، بدلا من أن نرى العالم كما هو، بلا أيّ شيء لحمايتنا، بصدق وشجاعة: أنكرنا، لأن ذلك كان سيكسر قلوبنا.
ما تعلمناه هو أننا مصنوعون من دفاعات، من دروع ومصفحات، هو أننا مدن تقوم في أساسها الهندسي على جدران وأسوار ومعاقل ومخابئ. بمرور الوقت صرنا في الصف الثالث، وبعد كل امتحان واستمارة ودراسة قمنا بها على بعضنا البعض، صارت لديّ تسمية للخطأ الذي أواجهه. كان الأمر بمثابة اكتشاف لاسمي السريّ، الاسم الذي يدعو صاحبه إلى المبادرة.
لوقت طويل تمرّنت على التجارة لكنّي لم أمارسها. في إحدى البعثات العلمية، عَلِقْتُ في مدينة كبيرة من دون أن يكون لدي أيّ مال، وكنت أعمل خادمة، فبدأت الكتابة. كانت قصة رحلاتي التي أضعها في كتاب، وكنت أريد أن يقرأها الناس في القطار لأنّي كنت أكتب لكي أقرأ ما أكتبه. كان كتابا صغيرا بحجم شطيرة صغيرة من ساندويش. وكنت قادرة على التركيز، بغض النظر عن أنّ أذني أحيانا اكتسبت شكلا عملاقا، وصارت تلتقط تذمر الآخرين والأصداء والهمسات. كانت أصواتا مصفّاة تخترق أحد الجدران. أصوات تأتي من بعيد.

بيتر هاندكه.. الشقاء العادي
… حين وصلت إلى الدفن، وجدت في حافظة نقود أمّي إشعارا بإيداع رسالة يحمل الرقم 432. فمساء الجمعة، قبل أن تعود إلى المنزل وتبتلع الحبوب المنومة كانت أرسلت إليّ من فرانكفورت نسخة من وصيتها بواسطة البريد المضمون (ولكن لماذا بالبريد العاجل أيضا؟) ويوم الاثنين كنت في البريد نفسه لمكالمة هاتفية. كان ذلك بعد يومين ونصف من وفاتها ورأيت لفّة بطاقات البريد المضمون الصفراء أمام الموظف: كانت أرسلت تسع رسائل بعدها بهذه الطريقة، إذ كان الرقم التالي 442 وكان الشبه كبيرا بين هذه الصورة والرقم الماثل في ذهني بحيث أنّ أفكاري غامت فجأة وانتابني الشعور العابر بأنّ كل شيء مزيّف. وأعادني إلى صوابي ما أحسست به من رغبة في أن أروي كل ذلك على مسامع أحد ما. لقد كان نهارا جميلا فعلا. ثلج. كنّا تناولنا حساء لحم الكبد المفرّم. (هكذا كانت البداية…) لو بدأت القصة بهذه الطريقة لبدا كل شيء مختلفا، ولن يكون القارئ أو السامع عندها، مجبرا على التعاطف شخصيا، إذ لا يرى أمامه سوى قصة من نسج الخيال.
ص12
عندما كان الطفل طفلا،
كان يمشي بذراعيه المتدليتين
كان يريد للجدول أن يصبح نهرا،
والنهر واديا.
وهذه البركة أن تصبح بحرا.
عندما كان الطفل طفلا،
لم يكن يدري بأنه كان طفلا
كل شيء بالنسبة إليه لديه روح
والأرواح كلّها كانت روحا واحدة.
عندما كان الطفل طفلا
لم يكن لديه رأي في أيّ شيء
لم تكن له عادات
كان يجلس القرفصاء
يهبّ راكضا
بخصلة شعر منفلتة
ولا يتصنع ابتسامات عند أخذ صورة له.
عندما كان الطفل طفلا،
كان هذا زمن الأسئلة التالية:
لماذا أنا هو أنا، ولست أنت؟
لماذا أنا هنا، وليس هناك؟
أين يبدأ الزمن وينتهي الفضاء؟
والحياة تحت الشمس أليست حلما؟
ما أراه وأسمعه وأحسّه
أليس ببساطة مظهر عالم قبالة العالم؟
هل الشرّ موجود حقا
والبشر الذين هم أشرار حقا؟
كيف تمّ هذا، أنا الذي هو أنا
قبل أن أكون، لم أكن موجودا
وفي يوم من الأيام، أنا الذي هو أنا
لن أكون أبدا هذه الأنا التي هي أنا.
عندما كان الطفل طفلا،
التفاح والخبز كان كافيين لإطعامه
وكان الأمر دوما على هذا النحو.
عندما كان الطفل طفلا،
كان التوت يتساقط فوق يديه، كما وحده يتساقط التوت.
الجوز الطازج كان يهيّج لسانه،
وكان الأمر دوما على هذا النحو.
فوق كلّ جبل، كانت له الرغبة في جبل أكثر علوا،
وفي كلّ مدينة، كانت له أيضا الرغبة في مدينة أكبر.
وكان الأمر دوما على هذا النحو.
إلى الشجرة كان يمدّ ذراعه باتجاه الكرز، مهتاجا
كما هو الحال أيضا اليوم،
كان المجهولون يخيفونه، ومازال ذلك دائما.
كان ينتظر السقوط الأول للثلج، ومازال ينتظره دائما.
عندما كان الطفل طفلا،
مثل رمح ألقى عصا باتجاه الشجرة
والرمح فيها مازال يهتزّ دائما.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى