شوف تشوف

الرئيسية

جنون السفن

بعد هدوء عاصفة «جنون البقر» التي أرقت الأوروبيين أكثر من غيرهم. جاء الدور اليوم على «جنون السفن» في إشارة إلى الهلع المتزايد جراء اكتساح أفواج المغامرين على متن القوارب عرض البحر المتوسط الذي لم يعد فضاء تعايش.
إنها المرة الأولى التي يتداعى فيها الأوروبيون إلى تنفيذ خطة أمنية وعسكرية في عرض الساحل المتوسطي، ردا على غزو الهجرة غير الشرعية التي لا تأبه لمخاطر البحر. فقد قدر أعداد ضحاياها القتلى والمفقودين في عمق البحر بعشرات الآلاف في ظرف وجيز. وساعد في انتشار الظاهرة أن بلدان ما يعرف بالربيع العربي تحولت إلى خزان كبير للنازحين واللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين. ما يفيد بأن هناك عوامل بنيوية أسهمت في إغراق البحر والسواحل الجنوبية للبلدان الأوروبية، خصوصا إيطاليا ومالطة واليونان، وبقدر أقل إسبانيا، بالنظر إلى تشديد الرقابة الصارمة على المعابر والمنافذ البحرية.
كانت الهجرة قائمة قبل الربيع العربي، وتبلورت مخاوفها في برامج سياسية لدى عديد من الأحزاب الأوروبية، حتى أن اليمين المتطرف المعادي للهجرة صار يتمدد من حيز ضيق إلى آخر أكبر اتساعا، وكانت هناك العديد من الاتفاقات والمقاربات التي همت ترحيل المهاجرين إلى بلدانهم الأصلية، إلا أنها لم تصل إلى درجة استخدام القوة، إلا بعد أن تبين أن الظاهرة في طريقها إلى الانتشار، مع توقع كل الاحتمالات الممكنة.
يعود السبب في ذلك إلى أن الواقع الذي شجع تنامي الظاهرة يزداد قتامة، وينذر بفقدان الأمل وتمكن اليأس من النفوس إلى درجة الاختيار بين الموت البطيء أو التصفيات على الهوية وبين المغامرة، ولم يعرف العالم نماذج بهذه الصعوبة، إلا في ضوء إفرازات الحروب والصراعات الأهلية والتناحرات الطائفية والمذهبية التي تشترك فيها دول عربية وإفريقية.
هذه الإفرازات الإنسانية المؤلمة لا مجال لاستيعابها والحد من تناميها، إلا من خلال إقرار تصورات جديدة في معالجة الأزمات التي استبدت بمناطق التوتر، فالمهاجرون غير الشرعيين لا يفرون من بؤس الحياة وشظف العيش وتعاظم الحرمان والقهر فقط، بل أصبحوا يهربون من مناطق القتال التي زاد منسوبها في العراق وسوريا وليبيا واليمن والصومال وفضاء الساحل الإفريقي. وما لم يتم وضع حد لهذه الأزمات، خصوصا في مستوياتها ذات الصلة بعربدة التنظيمات الإرهابية، يصعب إحراز أي تقدم حقيقي في الحرب على الهجرة.
قبل التفكير في تجار الهجرة ومموليها والمستفيدين من مكاسبها على حساب الضحايا والغرقى، يتعين وقف تجارة الموت الأخرى التي تغذيها الظاهرة الإرهابية وغياب الاستقرار وانعدام الأمن. فهذه الشلالات الهادرة بالدماء هي ما يدفع إلى زيادة أعداد النازحين واللاجئين الذين باتوا عنوانا مرادفا لانعدام الأمن والسلم والاستقرار. وإذا كان صحيحا أن الحروب المتوالدة يخرج من رحمها تجار الحروب وأباطرة الموت، فلا أقل من الذهاب بالمعالجة الموضوعية إلى أسبابها الحقيقية، كون الهجرة أصبحت عنوانا لردود أفعال إنسانية حتمية.
إن مكافحة شبكات المهاجرين لا تنفصل عن الواقع السياسي والاقتصادي الذي نمت فيه الظاهرة وترعرعت، ولا يمكن لرصد هذه الشبكات وتحطيم وحرق نفسها وقواربها أن يحقق الغاية المرجوة من دون الإحاطة بأسباب العرض والطلب، على اعتبار أنه لولا وجود مكاسب مالية تجنيها هذه الشبكات لما اتسع نطاق نشاطها. ولولا الرغبة في الهروب من جحيم الاقتتال العشوائي لما ضحى المهاجرون بما يملكونه من أجل ضمان ترحيلهم إلى خارج بؤر التوتر.
في الخلاصة أن الهجرة غير الشرعية التي كانت ترتبط بالأزمات الإفريقية، بما فيها الكوارث الطبيعية والفقر والمرض والجوع، أصبحت اليوم تتسع لتشمل أجزاء واسعة من العالم العربي. على اعتبار أن معظم مناطق التوتر استوطنت الخرائط العربية. فقد أخفق الحراك العربي باسم الثورة على الاستبداد في إقامة دولة الاستقرار والقانون والعدالة الاجتماعية. وفشلت «الفوضى الخلاقة» في غير تسويف حالة غير مسبوقة من الجحيم الذي تكتوي شعوب مكلومة بنيرانه المستعرة.
عبر مناسبات عدة، جرى تنبيه الدول الغربية إلى أنها لا يمكن أن تظل بمعزل عن هذا اللهيب الذي يتلاحق ضمنه الإرهاب والجريمة والهجرة غير الشرعية وكل الآفات المحتملة. وإذ تتوخى بلدان الاتحاد الأوروبي دعما سياسيا من مجلس الأمن في إطار الشرعية الدولية، ألم يكن أجدى أن تتجه إلى البحث في وسائل الحد من التدهور الخطير الذي نشأت عنه الظاهرة.
من حسن حظ الأوروبيين أنهم أقاموا نهضتهم بدعم من خطة مارشال ذات البعد التضامني في أعقاب الحرب الكونية الثانية، ومن سوء حظ الأفارقة والعرب أن التفكير في خطة بديلة لدعمهم في مواجهة المخاطر المتنامية لم يتبلور عبر حلول سياسية للأزمات. فالهجرة ستظل قائمة لأنها تترجم أحلام المستضعفين في الوصول إلى بر النجاة، من أجل كسب العيش وتأمين الحياة. لكن الأزمات تبقى من صنع تجارها. ولا يمكن حجب تجارب الحروب وراء شجرة تدعى اليوم شبكات تجارة الهجرة غير الشرعية، فهذه موجودة فعلا، لكن أخطر الشبكات لا تظهر إلى العلن، إذ تعمل على إشعال الحروب والفتن وتهديد العمران.
لئن كانت مبادرة الأوروبيين للحد من تنامي الهجرة غير الشرعية اختيارا يروم حماية حدودهم البحرية وفضائهم الطبيعي، فالغائب في معادلة الحماية أن العرب والأفارقة لم يفكروا بعد في أفضل السبل لتأمين حماية وجودهم واستقرارهم. وما «جنون السفن» إلا من بعض علامات «الفوضى الخلاقة».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى