شوف تشوف

جيل قلة لحيا

قرأنا قبل يومين خبر القبض بمكناس على أستاذ متزوج وله أربعة أبناء، يتجاوز من العمر 50 سنة لاستغلاله الجنسي لتلميذته البالغة من العمر سبع سنوات، وقبل هذا قرأنا عن حادث مشابه في مدينة الحاجب، وفي نفس الزمن تُحاكم أستاذة لأنها متزوجة من رجلين بمراكش، وفي الوقت ذاته هناك تحقيق في كلية سلا حول فضيحة تزوير للنقط، فجرتها أستاذة، وهي الآن توجه نداءات لحماية حياتها من تهديدات «مجهولة»، علما أن بعض زملائها «الباحثين» هم من المتورطين، وحتى لا نوغل في الذاكرة أبعد، قرأنا قبل ثلاثة أسابيع عن تلميذ في الرشيدية لم يتجاوز من عمره 13 سنة يتزوج بزميلته في القسم عرفيا، وهددها إن هي تركته بنشر صور فاضحة لها، وفي ثانوية شاهدنا أيضا فيديو مصورا لمراهق يطلب يد مراهقة بطريقة المسلسلات المكسيكية وسط حلقة من التلاميذ الذين يصرخون، في غياب تام للإدارة التربوية.
قرأنا وما زلنا نقرأ عن تعنيف مدرسين من طرف تلامذتهم، سواء في الفصول الدراسية أو خارج أسوار المدرسة، كما حدث مؤخرا في آسفي وفاس وسلا، قرأنا أيضا عن شكاوى أستاذات يتعرضن للتحرش من طرف تلامذتهن، بل ويتم تعريضهن للابتزاز لشراء السلم، قرأنا أيضا مؤخرا عن حجز عشرات العصي الكهربائية عند طلبة بجامعة القاضي عياض بمراكش، وقرأنا وسنقرأ عن أساتذة جامعيين يبتزون طالباتهم جنسيا في جامعات القنيطرة ومكناس وطنجة، قرأنا أيضا عن أستاذ يتاجر في شهادة الماستر، متخذا طالبا سمسارا له، مقابل الملايين، وما يحدث في باقي الماسترات في باقي الجامعات، سيما في كليات الحقوق ليس بأفضل حال، وما يحدث في كلية سلا وسطات خير دليل على ذلك، إذ يكفي أن نقول إن أغلب ماسترات هاتين الكليتين أضحت ملكا لعائلات بعينها.
إذا كان كل هذا وغيره يحدث داخل مؤسساتنا التعليمية والجامعية، فلا ننتظر أن تكون الشوارع العامة بأفضل حال، من حيث قيم الاحترام والإنسانية والتعاون والنزاهة وتكافؤ الفرص، لأن مؤسسات التربية والتي يفترض أن تكون مساهمتها فعالة في ترسيخ هذه القيم في المجتمع قد تحولت إلى مرتع لكل الرذائل والمصائب والجرائم.
إن ما أفلحت فيه مدارسنا وجامعاتنا حتى اليوم هو تفريخ العاهات الفكرية والنفسية والأخلاقية، ولسنا في حاجة لتقرير مدفوع الأجر لمكتب دراسات أو فريق من الخبراء لنكتشف ذلك، وسنكون مجرد ممثلين فاشلين إذا حاولنا إظهار الصدمة أمام هذه الحقيقة، وكل من اضطرته ظروفه لزيارة مدرسة أو جامعة سيقف على حقيقة أن هذه المؤسسات التي تكلف الملايير من المال العام ما هي في الحقيقة إلا مشاتل لـ «قلة الحيا»، فالتلميذ والطالب الذي لم يعد يرى مانعا من تعاطي المخدرات والكحوليات وممارسة التحرش والإقدام على العنف العرقي أو الإيديولوجي في مؤسسته المدرسية أو الجامعية لن ننتظر أن يجسد سلوكه في الشارع قيم الاحترام، لأنه حينها سيكون في درجة من «الحيوانية» لا يحد من جموحه إلا جهده وقدرته الطبيعيان، كما يقول مؤسسو التربية الحديثة، بل وقد ينزل إلى ما دون «الحيوان»، بحكم أن هذا الأخير لا يمكن أن يقدم على سلوك مخالف لطبيعته، في حين أننا الآن أمام أجيال تصدمنا كل مرة بسلوكيات لا نجد لها مثيلا في الغابات والأدغال، بل ويتم تبرير ذلك على أنه تحرر وحرية و«قفوزية» تتطلبها «الوقت»، بل ومنا من قد ينسبها لـ «النضال»، هكذا عم الفساد في كل أوصال منظومتنا التربوية والتعليمية، وهذا الفساد لم يتوقف عند فساد الإدارة والتدبير وضعف مردودية الفصول الدراسية، بل ووصل سرطانه إلى القيم، حيث الابتزاز والتهديد والاعتداء والتعصب والتمييز بين الجنسين والانحراف والتحرش وتخريب مرافق المدارس، والعنف ضد المدرسين، والغش والرشوة، وانتشار المخدرات وكل مظاهر الإجرام و«التشرميل»..
قد نتفهم تربويا ومعرفيا أن يفشل تلميذ في اجتياز امتحان، أو فهم درس، أو الإجابة عن مسألة أو تمرين، لكن ما لا يمكن تفهمه هو أن يبتز تلميذ أستاذته مثلا بدفع إتاوة أسبوعية لشراء «البلية» لتتجنب عنفه، أو أن يتعاطى تلميذ لمخدر في فصل دراسي، وعندما يتم نهره من طرف أستاذه يتحول هذا الأخير إلى مطارد في الشارع العام، وقد يصل الأذى إلى أسرته الصغيرة، كما لا يمكن تفهم أن تتعرض أستاذة للتحرش من طرف تلميذها.
الأمر لا مبالغة فيه إطلاقا، وإنما هي عشرات القصص التي تردنا من عدة مؤسسات تعليمية، عنوانها الأبرز أن الوضع خرج تماما عن السيطرة، وأنه حان الأوان لإعلان حالة طوارئ، وما يعيشه المدرسون والمديرون في العشرات من المؤسسات يكفي لوحده ليقنعنا بأننا نستثمر فقط في تفريخ أجيال غير مهذبة وغير صالحة لأي شيء.
في الحقيقة، نتمنى أن ينطق يوما نواب وزارة التربية الوطنية في سلا وفاس ومكناس وطنجة والقنيطرة، وهي المدن التي تلقينا من أساتذتها أكبر عدد من الشكايات، ويعترفوا بما يعيشونه يوميا في بعض المؤسسات التعليمية المتواجدة في بعض الأحياء الشعبية الخارجة عن السيطرة، والتي أضحت جحيما لا يطاق.
والأمر لا يقف عند مؤسسات التعليم الثانوي كما نعتقد بل وصل سرطان «قلة الحيا» للمدارس الابتدائية، التدخين، الكالا، القرقوبي… ولنا أن نتصور مستقبل تلميذ لم يتجاوز سنه 12 أو 13 سنة وقد بدأ مشواره مع الانحراف مبكرا، فيلتقي الانفجار السكاني بغياب فضاءات الترفيه عن الأطفال والشباب، بانتشار المخدرات والجريمة، والمصيبة هي أنه بدل أن تعمل المدرسة على التأثير في هذه الأحياء وترسخ القيم فيها، فإنها أضحت هي نفسها ساحة مثالية لتصريف كل شيء سلبي داخلها.
أما عن الأسباب، فكل التقارير تُجمع على أنه بالرغم من كل ما قيل طوال سنوات في وزارة التعليم عن السلوك المدني والتربية على القيم والتربية على حقوق الإنسان والمواطنة وغيرها، وصرفت على الترويج لها ملايين الدراهم، فإنها بقيت مجرد مشاريع صورية للاستهلاك الإعلامي، إذ غالبا ما يتم تنفيذها في شكل ندوة «ديال الهضاضر» أو أنشطة فنية بدون مضمون، أو ملصقات دعائية تافهة يتم تعليقها في المؤسسات التعليمية، فيما كل تفاصيل الحياة المدرسية لا علاقة لها بالاستقامة والمواطنة والتسامح والانفتاح على الآخر واحترام الرأي المغاير والتعاون والتواصل والحوار، وإنما عنف وضياع ويأس وصل حدودا أضحى فيها الجميع مهددا في سلامته، مع ما يرافق ذلك من فقدان تام للشعور بالأمن والأمان، ومن يعود للتقرير الأخير الذي أصدره المجلس الأعلى سيكتشف بالأرقام ما سيغنيه عن المزيد من التقصي. هنا تحديدا، وفي مسألة القيم تحديدا لا يمكن لأحد أن يدعي براءته، فالكل يساهم بهذا القدر أو ذاك من المسؤولية، بدءا بالموارد البشرية والمناهج التربوية والجماعات المحلية والنقابات والأحزاب والدولة، والمسؤولية أيضا تقع على كل المتدخلين في أمر القطاع، بدءا من الوزراء الذين يتساهلون مع الفساد والمفسدين، ويعتمدون ازدواجية أخلاقية معيبة في التعامل مع الموظفين، مرورا بالمسؤولين المركزيين والجهويين والإقليميين، وصولا إلى المدرسين والأسر، إذ إن الشعار الذي يحكم الأغلبية هو أن ينجوا بأنفسهم هم وحدهم ملقين كل اللوم على الآخرين، وعندما نجد هذا الذي يحدث لن نستغرب عندما نجد التلاميذ وقد بدؤوا منذ الآن يعدون المخططات للغش في امتحانات الباكالوريا.
لذلك، فإنه مخطئ تماما من يعتقد بأن هذا الوضع استثنائي ومحدود، بل إنه ظاهرة عامة ما فتئت تنتشر، وإن كان من إصلاح ينبغي التعجيل به، فهو إرجاع الهيبة للمدرسة، فرض قراءة النشيد الوطني كل صباح، كما كان عليه الحال سابقا، فرض معايير محددة للباس، على التلاميذ والمدرسين أيضا، التشدد مع المبتزين والمتحرشين من الأساتذة، والتشدد مع التلاميذ المدمنين والعنيفين والغشاشين.
إذا لم نقم بهذا، يصبح كل كلام عن رفع جودة التعليم وإصلاح المناهج التربوية مجرد لغو. وسيكون علينا أن نصبح متأكدين من أننا نحفر قبورنا بأيدينا لأن جيل الغد الذي نعول عليه لن يكون سوى جيل شبح يسير هائما على وجهه في الشوارع مخدرا وفاقدا لكل بوصلة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى