الرأي

حدود التخصصات المعرفية

إذا كان الحديث اليوم عن انفتاح المناهج والتخصصات المعرفية على بعضها البعض أضحى أمرا بديهيا، لا أحد يعارضه، إذ في الوقت الذي تزداد المجالات المعرفية تدقيقا وتخصصا بشكل ساهم في ظهور تخصصات معرفية جديدة تقع على الحدود الفاصلة بين المناهج المعروفة، فإن ما يجري على مستوى البحث العلمي والأكاديمي، فضلا عما يجري في مجال التعليم العالي للتخصصات العلمية، لا يعكس هذه الحقيقة، بل ما تزال هناك أرثودكسية تحتفظ بالحدود الفاصلة بين التخصصات المعرفية. فالأدب يدرس بعيدا عن الفكر والفلسفة والتاريخ الذي أنتج فيه النص الإبداعي، والفلسفة تدرس بعيدة عن الابستيمي الذي نشأت فيه المفاهيم، علما أن الفلسفة ذاتها مدينة بالفضل لتخصصات معرفية أخرى مثل العلوم الإنسانية، في فتح أفق التفكير الفلسفي على إشكالات جديدة، وإلا من منا يمكنه أن ينفي تأثير الثورة اللسانية مثلا على الفلسفة المعاصرة، والنقد يدرس بعيدا عن الفلسفة، والعلوم تدرس بعيدا عن الابستمولوجيا. وتصل الغرابة هنا، حدا لا يمكن تصوره عندما نجد في كليات العلوم من مايزال يدرس النظرية الداروينية دون حتى أن يسائل حدودها المنهجية، التي أضحت اليوم في مجرد طفولة علمية قياسا للثورة التي حدثت في البيولوجيا المعاصرة، وتحديدا علم الوراثة.
هكذا عندما نريد أن نبحث في فكر عبد العروي مثلا، فإننا نكتفي بالكتب التنظيرية، من قبيل «الإيديولوجية العربية المعاصرة» و«العرب والفكر التاريخي»، بينما لا نلتفت لروايات من قبيل «الغربة» و«أوراق»، على الرغم من تصريح صاحبها مرارا بوجود علاقة بين هذين النوعين من الكتابة، ومع ذلك كل الذين اشتغلوا على أطروحات هذا المفكر لم يستطيعوا اكتشاف الممرات بين كتبه التنظيرية والأدبية. يحدث هذا بالنسبة لسارتر، ويصبح الأمر واضحا أكثر عندما نجد انعدام بحث فلسفي في روايات سيمون دوبوفوار أو ألبير كامو أو محمود درويش أو عبد الرحمان منيف، مع أن روايات وقصائد هؤلاء مليئة بالأسئلة الفلسفية العميقة، فقط لأن منطق البحث عندنا ما زال يحتفظ بتصور تقليدي للتخصصات. وإلا هل يمكن لأي باحث في كلية العلوم أن ينجز أطروحة جامعية عن ابستمولوجيا الفيزياء أو الرياضيات أو البيولوجيا؟ هل يمكن إنجاز أطروحة لنيل الدكتوراه في الطب أو الصيدلة تتناول الإشكالات الإخلاقية وحدها لمهنة الطب أو لقضية من قضاياه؟ طبعا لا، فالذي نلاحظه، وفي أحسن الأحول، هو خاتمة فقيرة في نهاية الأطروحة تتناول انفتاحات ذات نفحة ابستمولوجية، لكن ليس بالمعنى العميق للكلمة.
أما في الشعب الأدبية، وتحديدا في اللغات، فالوضع كارثي، لأن المنطق الذي يحكم عمل الشعب هو التعامل مع اللغات بمنطق كونها «أجنبية»، وأهل التخصص يعرفون معنى التعامل مع اللغات بمنطق كونها أجنبية، إنه يعني ببساطة التركيز على الجوانب التواصيلة فقط، وكأن اللغة مجرد أداة تواصل فحسب، في حين أن اللغة لا يمكن عزلها عن الفكر الذي تعبر عنه. فيتم تدريس نصوص ذات عمق فكري وفلسفي بالتركيز فقط على الجوانب اللسانية المحضة في اللغة دون تجاوز هذا المستوى. والنتيجة تكون فورية على مستوى تكوين الطلبة والباحثين، الذين يصبحون في وضع يشبهون فيه إلى حد كبير سكان الجزر المعزولة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى