الرأي

حروب الإنسان العادي

كنت أتابع نشرة إخبارية فصدمتني بمشاهدها السريالية، في هذا الزمن من الأفضل ألا يتابع أحد نشرات الأخبار، إذا كان حساسا ستبعثه إلى مصحات نفسية، لأنها أضحت مضخة للأحزان والكآبة والوجع، وعلاوة على ذلك تقدم بدماء باردة وبابتسامة ساحرة وساخرة.. ما دعاني إلى التفكير في أي وسيلة أعبر من خلالها عن حسرتي وحنق خلجاتي، فاستقرت مخيلتي المجنونة على  رسم لوحة تجريدية، رسم أي شيء يعبر عن مأساة الحروب في زمن ينفخ في جمر الفتن والقتال، لكن بصيغة فنية تجلي ما لم تجلِّه النشرات الإخبارية بأمانة ووضوح.
وبعيدا عما أشاهده في التلفزيون من مآس تذكيها أدمغة ذكية وماكرة، لتستغل خيرات أمم مستهلكة أكثر منها منتجة، عرجت إلى حروب الإنسان العادي اليومية. فالمواطن يعيش صراعا وحروبا دامية مع الزمن يوميا، مع الطرقات، المخدرات، لقمة العيش… لا بأس، لقد ألفنا هذه الحروب، ومن كثرتها فكرت في بيع سيارتي وركوب دراجة هوائية توفيرا للقمة العيش، ومواكبة لموضة العالم، وإن كانت الحقيقة الجلية تؤكد أنه لم يكن هدفي مواكبة موضة العصر، فأنا لست من هواة الموضة، أعشق كل ما هو تقليدي وقديم.
ففي الدول المتقدمة أصبحت الدراجة الهوائية ظاهرة بورجوازية، أصبحنا نرى الوزير يغادر مكتبه الوزاري على دراجة هوائية. والسياسيون والبورجوازيون يستغنون عن سياراتهم المصفحة ويركبون الدراجات الهوائية للترويج لشعبيتهم، لكن هذه الشعبية الصورية تلتهمها وحشية الجشع والأطماع، أما نحن فقد وصلتنا موضة السيارات الفخمة متأخرة، دائما نسير عكس العالم.
اليوم نرى الوزير يغادر في سيارة الدولة المصفحة ويستغلها لأغراضه الشخصية، عوض سيارته الخاصة التي تركها لزوجته أو للسائق لإيصال الأبناء إلى المدرسة، أما «المزاليط» فيركبون دراجة هوائية والمحظوظ من يملك فرامل، فالأغلبية يفرملون بأقدامهم. وأنا، نكاية بالأوضاع الحقيرة، بعت سيارتي المتهالكة التي تحرجني بأزيزها ودخانها الذي يستنجد رجال الإطفاء الذين لا يأتون حتى تقضي النوائب مهمتها.
ما علينا، فالفروق شاسعة وواضحة بين الطبقتين وبين العالم النامي والعالم النائم، والأمطار التي أمسكت عن غيثنا منذ مدة هطلت في الأخير بغزارة، ما اضطرني إلى ركن دراجتي في أدراج السطيحة وملاحقة الحافلة الهاربة التي تختنق بالركاب الواقفين الأكثر من الجالسين. انتظرت لأزيد من نصف ساعة تفاديا للزحمة وللدوار الذي تسببه الحافلة المتمايلة والمفرملة على عجل. وأين المفر؟ المهم أنني أنتظر كما ينتظر أبناء هذه الرقعة في كل موطئ. اليوم السعيد هو عندما أصادف سائق الحافلة ابن حينا، فهو يفتح الباب من الخلف ولا يطالبني بثمن التذكرة. يجاملني ويعاملني باحترام لأن حبيبته ابنة جارتنا تشكرني له في غيابي، وهو يأمل مني أن أحميها وأن أشي بها إن رأيت عنها شيئا مخلا بالآداب، وأنا لا أرى عنها شيئا مخالفا لما يخمنه.. كان عليه أن يسألني عنها لأحدثه عن تلك الجاذبية التي تحدثها في أوصالي وهي تنشر غسيل أسرتها فوق السطح.
أتزاحم مع الركاب بدون أن آبه للصوص والمجرمين، أعرفهم، كما أعرف كل الأشكال الآدمية المقهورة، معظمهم درسوا معي. ومعظمهم كانوا يؤمنون بمصيرهم الفاشل، لذلك كانوا يتدربون على اللصوصية بسرقة الأقلام الملونة والكتب والأجهزة الإلكترونية التي كان يعلقها أطفال وشباب ذلك الزمن في أعناقهم، كلهم بدؤوا امتحانات التخرج في اللصوصية من عتبات المدارس.
لمن سنحمل مسؤولية مصير هذا الشباب الضائع؟ أحيانا أشك في أنني أنا بدوري مسؤول، وكلنا مسؤولون. ذات كابوس فجري خامرتني فكرة بائسة؛ لم لا يجرب المسؤولون ركوب الحافلات، أو يختبروا المشي حفاة في الشوارع؟ ماذا كان سيقدم مسؤول من مشاريع نافعة لو ركب حافلة تعج بالروائح التي تمتزج بين العرق والقنابل الموقوتة ودخان الحشاشين في الكراسي الخلفية؟ فيمَ كان سيفكر لو قبضته فتاة في حافلة وهو يتربص بعينيه في مطار صدرها، أو فرملت الحافلة فتداخلت أضلاعه بأنوثتها، ونظرت إليه نظرة أقرب إلى الود منها إلى الغضب أو تشابكت معه، وهي على حين غرة؟ ماذا لو كان أبناؤه يركبون الحافلة كل صباح ويصلون دائخين ومتأخرين عن موعد الدرس، ويجدون أبواب المؤسسة التعليمية قد أغلقت وبائعي المصائب يتربصون بهم أمام عتبات المؤسسة؟ وماذا لو كانت بنته ترعبها الزحمة وبريق السيوف والكلام النابي والوحشي، فتعود إلى البيت شاحبة تسكنها فوبيا الخوف؟
في رأيي أظنه كان سيقتطع من ماله ومن وقته لبناء هذا المجتمع المتلاشي. كان سيقدم الغالي والنفيس ويسهر الليالي ليرى العتمة تنجلي. نحتاج فقط، لنكون بخير، أن نضع أنفسنا في مكان الناس الذين تدميهم النصال وتقرعهم المطارق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى