الرأي

حلب..للغادرين نار سعير

في «تحية إلى العالم»، القصيدة الطويلة التي تقع في 13 مقطعاً وأكثر من 260 بيتاً، يلقي الشاعر الأمريكي والت ويتمان التحية على مدن إسلامية عديدة، بينها الجزائر وطرابلس وتومبوكتو وطهران ومسقط والمدينة، وحلب طبعاً. وثمة ذلك المستهلّ الصاعق من قصيدة ناظم حكمت «سيرة ذاتية»، والذي عدّه البعض أحد أنبل النماذج الشعرية على خيانة الطبقة: «ولدت في 1902/ ولم أعد إلى مسقط رأسي بعدها/ وفي الثالثة خدمت حفيداً لباشا في حلب»…
وفي الشعر العربي الكلاسيكي، لم يكن تفصيلاً عابراً أن يعقد أبو العلاء المعري تناظراً بين حصاة من قاع نهر قويق، الحلبي، وجبل ثبير الشهير، في ظاهر مكة المكرّمة:
حلبُ للوارد جنّة عدنٍ/ وهي للغادرين نار سعير
فقويقٌ في أنفس القوم بحرٌ/ وحصاة منه نظير ثبير
أو أن يسأل «شاكي النوب»، إذا جاء حلب، أنْ: «اخلعْ حذاك إذا حاذيتها ورعاً/ كفعل موسى كليم الله في القدس».
هذا إذا وضع المرء جانباً (ولكن كيف له أن يفعل، حقاً!)، الأبيات الأشهر من أبي الطيّب المتنبي:
نحن أدرى وقد سألنا بنجدٍ/ أقصيرٌ طريقنا أم يطولُ
وكثير من السؤال اشتياقٌ/ وكثير من ردّه تعليلُ
كلما رحّبتْ بنا الروضُ قُلنا/ حلبٌ قَصْدُنا وأنتِ السبيلُ
والحال أنّ حلب عريقة عتيقة، سامية نبيلة، غنية وغنّاء، حاضرة في التاريخ كما في الوجدان، عابرة للحدود والمحيطات والأزمان، وهي شاهدة على أحقاب من عمر الإنسانية، قلّما قُيض لمدينة أن تشهدها. لقد انطوى تاريخها على غزوات شتى، وحصارات وفتوحات، من الأكاديين والبابليين والحثيين والميتانيين والفراعنة والآشوريين والفرس والروم، إلى السلوقيين والمسلمين والسلاجقة والمغول والتتار والمماليك والصليبيين والعثمانيين والفرنسيين… ويكفي اختلاف المؤرخين والآثاريين حول أصل تسمية المدينة، لكي يتضح كم هي موغلة في التاريخ: ثمة مَن يساجل بأنّ «حلب» تعني الفولاذ في اللغات العمورية التي سادت على امتداد الهلال الخصيب، بالنظر إلى أنّ المدينة كانت مصدراً للنحاس والفولاذ، وثمة مَنْ يرى أنّ المفردة تعني اللون الأبيض في الآرامية، بالنظر إلى بياض التربة والمرمر في حلب، أو هي، ببساطة، اشتقاق ساميّ من الحليب، الذي قيل إن إبراهيم الخليل اشتهر به في إقراء عابري السبيل، خاصة من بقرة حلوب كانت شهباء! وفي كلّ حال، باتت حلب مأهولة ابتداءً من 5000 قبل المسيح، وذكرها في حوليات التاريخ يسبق دمشق، خاصة وأنها كانت الحاضرة الأبرز في مملكة إيبلا، قبل أن تصير عاصمة لممالك وإمارات، فتُهدم ويُعاد بناؤها، لكي تُهدم مجدداً و… يُعاد بناؤها، أبهى وأعرق وأجمل. وقبل 16 سنة كانت قمة منظمة المؤتمر الإسلامي، التي انعقدت في العاصمة القطرية الدوحة، قد اختارت مدينة حلب «عاصمة الثقافة الإسلامية»، للعام 2006، في تمثيل كامل المنطقة العربية (مقابل أصفهان عن آسيا، وتومبوكتو عن أفريقيا)، فكانت حلب ثاني مدينة عربية تحظى بهذا الموقع المشرّف، مباشرة بعد مكة المكرّمة التي كانت عاصمة العام 2005 (ولكن في اسبقية على بغداد ودمشق والقاهرة) !
ولم يكن مفاجئاً أن ينطوي القرار على فتح آفاق واسعة في دراسة تاريخ المدينة من جوانب عديدة متشعبة: في التاريخ الديني والعقائدي للمدينة، يبرز ابن رشد وابن عربي، وحوار الحضارات بين ضفتَيْ المتوسط، وتصوّف حلب بين السهروردي وابن عربي، والتراث الفلسفي الإسلامي في حلب، ودور المطبوعات المسيحية في عصر النهضة، والتسامح الديني من خلال نصوص إسلامية ومسيحية مبكرة، وفي التاريخ الثقافي والحياة الفكرية، والأدب والطبّ والفلسفة والموسيقى والعمارة، وبحوث أخرى في أعلام المدينة (وهم كثر! بين المحدثين وحدهم يعثر المرء على عبد الرحمن الكواكبي، خير الدين الأسدي، إبراهيم هنانو، سعد الله الجابري، شكيب الجابري، عمر أبو ريشة…)، ثمّ اللغات، واللهجات، والآثار، والمساجد التاريخية، وأدب الرحلات، وأخيراً، وليس آخراً البتة، علاقات حلب مع مملكة ماري، وطروادة هوميروس، والبندقية، وموقع المدينة على طريق الحرير، ومكانتها كمنعطف في الحروب الصليبية…
تلك هي حلب، وهذا نزر يسير من أسفارها وأطوارها وأحوالها، بوصفها الشهباء الكريمة المجيدة الأبية، صاحبة الموقع السياسي والثقافي والحضاري، الإنساني والوطني والكفاحي، الذي تضرب جذوره عميقاً في تاريخ سوريا، القديم والوسيط والحديث والمعاصر. وتلك هي الحاضرة التي أطاشت صواب النظام السوري منذ ابتداء الانتفاضة الشعبية، فأطبق عليها الخناق، أكثر ممّا فعل مع دمشق، وفرض عليها حصاراً خارجياً وداخلياً، وأقام الحواجز في أحيائها وشوارعها الرئيسية، كما نصب عدسات المراقبة في الساحات العامة وأمام المساجد، ولجأ إلى الطرائق الأشدّ شراسة في تفريق تظاهراتها واعتصاماتها السلمية، قبل أن يقصفها بالطيران والمدفعية الثقيلة والصاروخية والبراميل، مستهدفاً عمرانها ومشافيها ومخابزها ومدارسها ومساجدها وكنائسها…
لكنّ حلب كانت، وتظلّ، قَصْد سوريا، ومنها، وإليها، كان السبيل، ويظلّ. عاشت، وسوف تعيش أبد الدهر، والوحش، قاتلها، سقط مراراً في مزابل التاريخ، وسيسقط اليوم أيضاً، لا محالة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى