الرأي

خل في عسل الانتخابات

قديما قال فقهاء العرب، الذين كانوا أطباء ومؤرخين وأدباء ودعاة اجتهاد، بأن الخل يفسد طعم العسل. ولم يكونوا مبالغين أو ميالين إلى التهويل، ذلك أن صفاء العسل الخالص من صفاء طبيعته. والحال أن أكثر الاستحقاقات الانتخابية التي عرفها المغرب في السنوات الأخيرة، تعرضت لإفساد طعمها عبر الاستخدام المفرط للمال.
هكذا على الأقل، تتردد أقاويل واستخلاصات، في مناسبة تشكيل مكاتب البلديات والعمادات والجهات، ثم انبعث صداها على مستوى انتخاب أعضاء مجلس المستشارين، والواقع أنه إذا كان من حدث رافق اتساع نطاق المؤاخذات، فهو مسار مجلس المستشارين الذي أسال الكثير من المداد، بحكم تركيبته من «الناخبين الكبار» الذين لم تفلح كافة الإجراءات القانونية والإدارية الاحترازية والإجرائية في تخليص هذه الاستشارة من كل المؤاخذات.
لا انتخابات بدون أموال، ففي أعرق الديمقراطيات ما انفك المترشحون للرئاسيات في جمع الأموال من طرف مناصريهم لخوض المنافسات. ومنذ أن كانت التقليعة النيابية، وهي تتأثر بنفوذ أصحاب المصالح الذين يدفعون إلى الواجهة بمن يدافع عنها، ويشرع لها القوانين، كما تفعل فئات أخرى ذات توجهات يسارية أو يمينية محافظة، إلا أن الفرق بين استخدام المال بطرق مشروعة لا تشوبها مؤاخذات، وبينها حين تتحول إلى عامل مؤثر في شراء الأصوات والذمم، يظل بلا قياس. وأقربه أن الدولة سنت المزيد من القوانين التي تكفل تمويل الحملات الانتخابية، كي لا يضطر أي حزب إلى الاعتماد على ما هو غير مشروع. وضمنه التمويل الأجنبي أو استخلاص أموال من تجارة مشبوهة.
انتصرت الإرادة السياسية في جانب كبير من التحديات، على فكرة صنع الخرائط الحزبية، من خلال ظاهرة تزييف الإرادة الشعبية، عندما كانت الإدارة تنصب نفسها ناخبا لا يخجل من سرقة أدوار الناخبين الحقيقيين. وبالقدر الذي تراجعت فيه حدة الانتقادات إزاء سير العمليات الانتخابية، بالقدر الذي تعالت انتقادات حول الاستخدام المفرط للأموال، خصوصا تلك المتعلقة باستمالة الناخبين الكبار الذين يغير أعداد منهم ولاءاتهم في ظروف يصعب على أعتى المحققين القضائيين ملامستها بالجرم المشهود، مثل أي ظاهرة معيبة تدور فصولها في الخفاء، على قياس النوايا وموجات التردد والضغوط وأنواع الإكراهات.
ليس العيب في نمط الاقتراع. فقد تخلص المشهد السياسي بعد ردح من الزمن من فكرة «الثلث الناجي» الذي كان سببا في أزمات وتصدعات، إلا أن العودة إلى نظام الغرفتين الذي ساد أول تجربة نيابية عرفها المغرب، لم يبدد هذه القتامة. والمشكل ليس في نظام الغرفتين أو في ضمان تمثيلية القوى الإنتاجية وممثلي الديمقراطية المحلية والمبادرة الحرة في المال والأعمال، ولكنه كامن في اختيار نوعية مترشحين، يتنكرون لتعهداتهم والتزاماتهم بمجرد تحمل المسؤولية.
ربما جاز استقصاء خلفيات المشكل في ما هو أبعد من تصرفات منتخبين يغيرون معاطفهم، أو لا يمتثلون لقرارات هيئاتهم الحزبية، إلا أن ذلك يعاود طرح إشكاليات حقيقة الانتماءات الحزبية. وإذا كان دستور فاتح يوليوز منع ظاهرة الترحال الحزبي لتحصين المشهد السياسي من التلاعبات، فإن الجانب الأخلاقي في مآل التحالفات، وتحديدا غير الطبيعية، يطرح نفسه بحدة وقوة. فمن غير اللائق أن تقر البلاد القطع مع الممارسات التي تسيء إلى سلامة ونزاهة الاستحقاقات، فيما لا يمانع منتخبون في ضرب عرض الحائط بكل هذه الأخلاقيات والمسؤوليات. ومن القرف حقا أن نطالب إلى عموم المواطنين التصدي إلى ظاهرة الرشوة، بينما هي متوغلة في ممارسات أخطر تهم الولاية النيابية.
بيد أن البعد الأخلاقي الذي «يميز» استشراء ظاهرة الرشوة التي تنخر المجتمعات، على رغم استعمال شتى الوسائل الممكنة للحد من هذه الآفة، يصبح أكثر مدعاة للقلق حين يمس تصويت ما يعرف بالناخبين الكبار. والأمر في حد ذاته لا يعني أكثر من استمرار فهم خاطئ ومغلوط لمعنى المسؤولية الولائية، إن على مستوى الديمقراطية المحلية أو التشريعية، وطالما أن هناك مستفيدين من العملية لأسباب مختلفة، فإن صيغة العرض والطلب التي تساعد في انتشار ظواهر مسيئة على الصعيد الاجتماعي، من قبيل الرشوة واستغلال النفوذ، فلا مجال للتخلص منها حين تشمل المشهد السياسي، من دون شطب الظاهرة من أساسها. ولن يعدم أي عقل نبيه في التعرف على الأسباب الكامنة وراءها.
في المرجعية الدستورية أن حصانة الولاية التشريعية مكفولة، ولا يمكن تعريض أي نائب أو مستشار لأي مساءلة أو مؤاخذة، بسبب اتخاذه مواقف تتماشى وممارسة مسؤولياته النيابية، وبهذا المعنى فإن فكرة التعرض إلى الضغوط في الإمكان احتواؤها وتجاوزها. لكن ما العمل إذا كان هناك من لا يبرع في شيء غير تقديم خدمات لجهات يتصورها نافذة، أو بسبب ما يدره عليه التصويت من مردود مالي مشبوه.
تلك هي المشكلة!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى