شوف تشوف

الرأي

دروس عصر التنوير

أشرنا في العدد الماضي لبعض أوجه التقصير التي تعتري عمل الباحثين والمثقفين، وخاصة أساتذة الجامعات الذين أنجزوا أطروحات جامعية، نالوا بها وضعا اجتماعيا ومهنيا معينا واكتفوا بها، دون أن يقوموا بعد ذلك بأي مجهود لإشاعة ونشر وتبسيط ما توصلوا إليه، لاعتقاد أغلبهم بأن الكتابة التبسيطية الموجهة للجمهور تحريف للأطروحات والنظريات والإشكالات. لكن من يقرأ التاريخ الحقيقي لعصر الأنوار، منذ الثورة الكوبيرنيكية وما تلاها من ثورات عارمة مست كل الحياة البشرية في ما بعد، سيفهم جيدا الدور الذي لعبه الآلاف من الوسطاء الذي قرؤوا وفهموا ما قرؤوه عند المؤسسين الكبار للفكر الحديث، سواء في العلوم أو الفلسفة أو الإصلاح الديني أو السياسة أو التشريع، ولم يكتفوا بما قرؤوه وفهموه، بل كتبوا وعلَّموا كل ذلك في كتب ومنشورات موجهة للعموم.
هذا كان نهج الموسوعيين الكبار، وهذا أيضا كان القصد الأول من إنشاء الجرائد في نسخها الأولى، وأيضا المدرسة العمومية. فما بين منتجي المعرفة، وهم العلماء والفلاسفة والأدباء وعموم الناس، هناك مسافات طويلة ينبغي اختصارها بعدد كبير من القراءات والتبسيطات والشروحات والتلخيصات والتعليقات، تماما كما فعل المشائيون مع المعلم الأول على امتداد قرون طويلة.
فإذا أخدنا على سبيل المثال لا الحصر كتاب كوبرنيك المسمى «عن دوران الأجرام السماوية»، فهذا الكتاب يعرف عند مؤرخي العلم الحديث بكونه «الكتاب الذي لم يقرأه أحد»، فهذا الكتاب الذي كتبه نيقولا كوبرنيك سنة 1539، وطبعت نسخه الأولى سنة 1543، كتب بلغة رياضية معقدة يصعب معها بالنسبة لعموم الناس، الرازحين تحت نير السلطة الدينية والسياسية الكنسية، قراءته أو فهمه، لكن بالرغم من التداول المحدود جدا لهذا الكتاب، الذي طبعت منه نسخ قليلة فقط، عمل كوبرنيك نفسه على اختصاره وكتابة أفكاره في كتيب صغير، وبلغة بسيطة يسهل فهمها وتداولها، وسماه «التعليق الصغير»، وهو العمل الذي لقي انتشارا واسعا، وخاصة من اللوثريين الذين أعادوا كتابة أفكاره بلغاتهم القومية وشرحوها لتكون في متناول العامة، والنتيجة هي نفاذ النتائج المذهلة التي توصل إليها كوبرنيك، نتيجة عقود من العمل النظري والتجريبي، (نفاذها) إلى الثقافة العامة، لتصبح الكوبرنيكية مكسبا للعقل البشري بدل أن تبقى سجينة كتاب تمت كتابته بلغة رياضية موجهة للخواص. فهذا الكتاب الموجه أساسا للخواص لم يكن ليكون حلقة مهمة في الثورة العقلية الحديثة لو لم يتجشم أحد هؤلاء الخواص عناء تبسيطه وشرحه.
الأمر ذاته يمكن أن يقال حول كتب ومنشورات ومخطوطات لعلماء كثيرين في العصر الحديث، وصولا إلى أنشتاين، والسؤال: هل كل الناس قادرون على فهم نظرية النسبية الخاصة التي أحدثت زلزالا حقيقيا في الثقافة العالمية، لو لم يقم كثيرون بتبسيط لغتها الرياضية المعقدة وإشاعتها؟
إن حرص العقل الغربي على تقاليد البحث العلمي، في كل المجالات، أمر لا جدال فيه، ويصل هذا الحرص عندهم لدرجات قد تبدو للكثير منا تعجيزية، لكن بقدر ذلك، هناك أيضا حرص كبير على قطف ثمار النظريات والأطروحات والقضايا العلمية والفلسفية والأدبية، وإدماجها في الثقافة العامة لتكون في متناول العامل والتلميذ وربة المنزل والموظف والعاطل ونزيل المستشفى والشرطي والسياسي، الذين لا تحتم عليهم الحياة عدم التفرغ للعلم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى