الرأي

دكتور ذو ليتل

كثيرا ما يطرق باب منزلي أحد الطلبة أو الطالبات و يسألونني إذا كان من الممكن أن أساعدهم ببعض الشروحات و التوضيحات في دروسهم الجامعية و بحوث إجازتهم التي غالبا ما يفرض الدكاترة و الأساتذة في الجامعات المغربية مواضيعها على الطلبة بدون وجه حق و دون أن يمدونهم بمناهج البحث. و كم من مرة صدمت و أنا أطلع على تلك المواضيع و أفكارها الجزئية و الفرعية و التي تتسم بالتكرار المكرر و الملل الممل الذي يعكس مدى انغلاق الأطر الجامعية المغربية و عدم مسايرتها للركب الفكري و الفلسفي الذي يحيط بها في العالم ككل. و يشتكي جل الطلبة من الدكاترة و الأساتذة المشرفين على بحوثهم خصوصا دكاترة و أساتذة الآداب و الذين ينقصهم فعلا الأدب و السلوك في تأطيرهم للطلبة و تعاملهم معهم لأن هؤلاء الطلبة يعانون من مستواهم الفكري و الثقافي الضعيف و من عدم إلمامهم بآليات البحث.

مازلت أتذكر يوم أوقفتني الأستاذة الدكتورة الكريمة في مادة “الثقافة المغربية” عندما صعدت إلى منصة المدرج أمام أكثر من مائتين طالب و طالبة، و أنا أردد أغنية ” يا بنت بلادي سلبوني عينيك و الزين اللي فيك، قلبي تيبغيك” و أشرح و أحلل كل بيتين شعريين من هذه الأغنية الجميلة على حدا و أحاول أن أوصل معانيها الإنسانية النبيلة و العاطفية إلى الحضور الذي انفجر من الضحك على صوتي الخشن و على جرأتي و شجاعتي في اختياري لموضوع أخر غير تلك المواضيع التي كلفت الأستاذة الدكتورة الطلبة بإعدادها. لم تصدق الأستاذة الدكتورة أنني أغني بجانبها و كأنها هي تلك “الجميلة” التي سلبت لب المرحوم عبد الصادق الشقارة و لبي. بل أكثر من ذلك، لم تستحسن الأستاذة الدكتورة، و هي التي قضت في التدريس بالجامعة أكثر من ثلاثين سنة، إختياري و أجبرتني على التوقف و النزول من منصة المدرج و العودة إلى مقعدي كأنني قمت بمخالفة في الطريق و علي أن أدفع ثمن تهوري. كل ما كان في نيتي هو أن أسبر معاني تلك الأغنية الجميلة و أن أقف عند ذلك الشغف الذي أصاب عبد الصادق الشقارة بافتتانه بإحدى المغربيات الجميلات قبل أن يخرج علينا نبيل عيوش و ممثلته أبيضار و يعتدوا على هذه الأغنية الخالدة و يسرقوا بعض كلماتها لتوظيفها في تسمية و عنونة فيلمهم البورنغرافي الممسوخ. لم أستسغ أمر الأستاذة الدكتورة و قمعها لي و قولها بأنني كنت أتحامق عليها أمام الطلبة و الذين، برغم كل شيء، جعلتهم يضحكون و في نفس الوقت يستمعون و ينتبهون إلى موضوعي : ” الأغنية المغربية: أغنية عبد الصادق الشقارة، نموذجا”. كيف كنت أتحامق عليها و لا أريد أن أدرس و أنا الذي كنت أحاول أن أحاضر حول تلك الأغنية الجميلة و كيف أنها تجاوزت الحدود المغربية و مزجت بين اللغة العربية و الإسبانية و صهرت الثقافات المختلفة فيما بينها و بين طياتها في ترنيمات المرحوم الشقارة و صوته الشجي و رقصة الفلامينكو.

تعتبر الجامعة في المغرب مرحلة لتجميد و “تحنيط” عقول الطلبة. فالدكاترة و الأساتذة، يتهاونون و لا “يصدعون” و يكسرون رؤوسهم مع طلبتهم و يكتفون فقط بإملاء الدروس للطلبة. هذا الإملاء الذي تعلمه الطلبة بالطبع في السلك الابتدائي الأساسي. و بهذا الفعل “التعليمي” أصبح الطلبة ينسخون الدروس و يجيبون بحار الكلمات و محيطاتها طولا و عرضا دون أن يقفوا الأستاذ أو الدكتور لبعض الوقت و يسألوه عما استعصى عن فهمهم و إدراكهم من أفكار. و هؤلاء الأطر العلمية لا يكترثون للتعب الذي يصيب الطلبة و الألم الذي تعانيه أيديهم بسبب كثرة تدوين و نسخ الدروس و التي من المفترض أن ينهيها الأستاذ أو الدكتور الجامعي بأي شكل من الأشكال أو يضعها عند صاحب مكتبة أو دكان لكي يطبعها الطلبة. عملية الإملاء و نسخ الدروس هي الروتين اليومي الذي يمارس في شعب الآداب بأشكالها و أنواعها. ولا يقبل الأستاذ أو الدكتور الجامعي من يعترضهما و يسألهما حول شيء ارتباطا بموضوع المحاضرة أو ما شابه.

في الحقيقة، يخيم صمت مطبق في الأقسام للمدارس و الجامعات المغربية و الطلبة غالبا ما يضعون الأساتذة الشرفاء في موقف حرج لأن هؤلاء الشرفاء، على قلتهم، يسهبون في شرح الدروس و فحصها و تمحيصها من كل الجوانب و لا أحد من الطلبة يريحهم، و لو قليلا، بمداخلة أو سؤال أو إضافة. و حتى إذا لم يستوعبوا الدرس أو الموضوع و يسألهم الأستاذ عن ذلك، يردون بالإيجاب على أنهم فهموا.نعم، لقد فهموا.

هناك معايير علمية و تربوية تحدد مستوى الأستاذ أو الدكتور الجامعي، و الطالب الذي لا يقتصر على ما يقدمه الأستاذ أو الدكتور من دروس و يجتهد في البحث و الغوص في عالم الفكر و الإبداع ، يمكن له أن يطلع على مستوى الأستاذ من خلال ما يجود به من محاضرات في القسم . و لأن بعض الأساتذة و الدكاترة يفتقدون إلى كل الطرق التعليمية و البيداغوجية ” لتنشيط” حصصهم الدراسية و تحفيز طلبتهم على المثابرة و الاجتهاد، فإنهم لا يحبون أن يسألوا و يناقشوا حول شيء و يفضلون الإملاء فقط على طلبتهم. هذا، للأسف، ما يحدث مع أساتذة و دكاترة متمرسين لعشرات السنين و يتخرج على أيديهم ألاف الطلبة كل سنة بمستواهم المعروف الذي لا يؤهلهم للعمل حتى بالسميك في إحدى الشركات الخاصة. لكن كيف سيصبح مستوى الطلبة إذا تمد رسوا و تعلموا على أيدي زملائهم «الطلبة الدكاترة”؟

بتعاقد وزارة لحسن الداودي مع الطلبة الذين يدرسون في مسالك الدكتوراه و المسجلين فيها ابتداء من السنة الثانية للعمل في الجامعة مقابل 5000 درهم في الشهر، فإن الجامعة تقطع الطريق على بعض” الأساتذة الدكاترة” المتنورين علميا و الذين درسنا على أيديهم و نكن لهم كل الحب و الاحترام و الذين مازالوا إلى حد الساعة ضائعين مع أولاد الشعب في الإعداديات و الثانويات ويتأسفون على حالهم و رغبتهم الجامحة في أداء مهمة التدريس على أحسن وجه و بكل إخلاص، ولكن لا تعمل وزارة لخسن الداودي على شكرهم و جزائهم و لو بشكل رمزي يتمثل في تغيير وضعهم و فسح المجال لهم للبحث أكثر في مختبرات و خزانات الجامعات المغربية . أما إذا لم تدمج حكومة لحسن الداودي هؤلاء و الشرفاء منهم، فإن الجامعة المغربية ستقفز من مرحلة تجميد و تحنيط عقول الطلبة( الذين يدرسون للحصول على الإجازة) إلى مرحلة كسر الصمت الذي تعرف به الأقسام المغربية و الاستنطاق الذي سيجعل “الطالب الدكتور المتعاقد مع وزارة لحسن الداودي ” يكرس كل وقته للحديث مع الطلبة كما فعل ” الدكتور ذوليتل” للحديث مع الحيوانات و معرفة ما يعتمل في عقولها من أفكار وأخيلة. و قد يندهش و يحتار هذا القادم الجديد، هذا ” الطالب الدكتور” من اكتشافه و ربما ينتهي به الأمر إلى عدم التركيز في دراسته و إنهائها بشكل كلي ولن يساهم في تطويرلا ذاته و لا مهارات و كفاءات الطلبة وسيجعله هذا يدخل إلى “مصحة عقلية”. إن الحكومات التي تحترم شعوبها و تؤمن بالتعليم على أنه هو الأساس المتين في التنمية و التطوير، تجعله دائما من أولى أولياتها، لا تتردد في الإنفاق عليه و رصد ميزانيات كبرى لجعله في مستوى تطلعاتها و طموحاتها. و لكي تحقق النجاح فيه و لبلدانها و لمواطنيها، فإنها تسارع في جلب الخبراء المهرة من كل البلدان و توظيفهم مع الأساتذة المجتهدين و المعروفين بكفاءتهم العلمية و المعرفية حتى يصنعوا أجيالا ترسم الأهداف و تحققها. أما الحكومات العاجزة و الفاشلة ، فإنها تستعين فقط بأشباه “الدكتور ذوليتل” لاكتشاف كيف يمكن إستنطاق الحيوانات و الحديث معها . ويبقى، بالطبع، دائما و أبدا ” الإنسان حيوان ناطق”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى