الرأي

رئيس الدبلوماسية يعود على متن رحلة عادية

ساد التوتر أعمال مؤتمر لمنظمة الوحدة الإفريقية حضره المغرب قبل اتخاذه قرار الانسحاب من هذا المنتدى الإقليمي، احتجاجا على انتهاك ميثاقه التأسيسي، في سابقة شكلت أكبر كذبة في التاريخ. كان رئيس الديبلوماسية المغربية وقتذاك يتابع الموقف داخل القاعة، وفي ذهنه أن ما كان جرى الاتفاق حوله لن يطرأ عليه أي تغيير، فالدول بالتزاماتها تقاس مواقفها، وليس بأهواء موظفيها المنحرفين.
قبل أن يدخل إلى قاعة الجلسات المغلقة، تلقى الوزير تطمينات من رؤساء وفود صديقة بالاستمرار في دعم موقف الرباط الذي كان أحدث اختراقا كبيرا في الصف الإفريقي، لدى طرح فكرة «الاستفتاء التأكيدي» التي قوبلت بترحيب دولي كبير. فقد استجابت الرباط لتمنيات قادة أوروبيين وعرب، من بينهم الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران والملك الراحل فهد بن عبد العزيز والشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، بل إن العقيد معمر القذافي الذي كان دأب على معاكسة الشرعية المغربية، أذعن لرجاحة الاقتراح السديد والتزم موقفا أقرب إلى الحياد.
أفشل المغرب ضمن محطة سابقة خطة مبيتة، كانت تقضي بحمل وفد من قيادة انفصاليي بوليساريو لتسجيل نوع من الحضور «الرمزي» في مؤتمر إفريقي تسلم «بادجات» عليها إشارات إلى وفود جزائرية وإفريقية مناوئة، تدور في فلك مناهضي الشرعية الدولية، وحاول التسلل إلى قاعة المؤتمر، متخفيا وراء أعلام ورموز، إلا أن فطنة المغاربة كانت له بالمرصاد، وتصدت لفضح لعبة الوجه والقناع.
لابد من التنويه إلى نباهة المصدر الكبير محمد مرادجي الذي وقعت عيناه المتفتحتان، كما كاميرته التي لا يغمض لها جفن، على حركة غريبة عند بوابات القاعة الرسمية، وأدرك بحكم معرفته بالوجوه التي حاولت وضع الأقنعة أن ثمة مناورة يراد بها إحراج المغرب، وهكذا انتقل الاحتجاج إلى موقف رسمي، أدى ضمن تفاعلاته إلى حبس أعضاء الوفد الانفصالي في غرفة ضيقة، بعد أن حظر عليهم مغادرتها، إلا في اتجاه العودة إلى المطار، وسط رقابة مشددة.
لم تكن المرة الأولى أو الأخيرة التي حملت فيها الجزائر الرسمية وفود الانفصاليين، كما تحمل حقائب السفر، وفي أكثر الحالات باءت محاولاتها تلك بالفشل، لأن ما كان يهم الجزائريين هو أن يتواجد المغاربة والانفصاليون تحت سقف قاعة واحدة، وهو ما لم يحدث، على رغم كافة أشكال المناورات التي كانت تتخذ من أسلوب شراء ذمم موظفين وديبلوماسيين وحراس وسيلة ومنهجية لفرض الأمر الواقع. تماما كما في حالات تهريب المخدرات والمواد المحظورة، حيث يلجأ المهربون إلى إخفاء السموم التي لا تكشفها أجهزة الإنذار المبكر فقط، ولكن العقول النابهة ترصد سيناريوهاتها بيقظة وحذر. فالتهريب ممنوع في المواد والبشر فبالأحرى في المبادئ والتزامات الدول.
أثناء واقعة التصويت على مشروع قرار في مؤتمر لدول عدم الانحياز، انتبه الصحفي المقتدر عبد الحي أبو الخطيب إلى وقوع تغيير مفاجئ في رزنامة القضايا المثارة. فقد عرف عنه أن لديه أذنا لاقطة، وهو الذي نزع «بادجا» من عضو وفد آسيوي، مكنه من ولوج قاعة المؤتمر المخصصة للوفود الرسمية، وحين تأكد بأن مشروع قرار حول قضية الصحراء سيطرح على التصويت، وسيتم إقحامه في أجندة لا علم للمؤتمرين بها، غادر القاعة ليخبر رئيس الوفد المغربي بالمناورة، ما ساعد على إحباطها في المهد. وانتفض رؤساء وفود ضد تحيز الرئاسة التي كانت تميل إلى إغراق المشهد بعفونة الطرح الانفصالي.
بالعودة إلى مؤتمر منظمة الوحدة الإفريقية، كانت إرهاصات تورط الأمين العام آدم كودجو سيئ الذكر قد بدأت تلوح في الأفق، خصوصا أنه أراد استغلال لحظة إغفاء في مؤتمر وزراء الخارجية لتمرير مشروع جهنمي، بينما منهجية التداول في ملف الصحراء كانت قطعت أشواطها الأولى على طريق إسناد الملف إلى لجنة حكماء أفارقة، انطلاقا من جسارة مبادرة مغربية انتزعت تقدير العالم.
ما سيتلو ذلك كان مؤامرة بكل معنى الكلمة، وسيتأكد الأفارقة لاحقا أن آدم كودجو أوقع الحفرة الأولى لقبر منظمة اسمها الوحدة الإفريقية، إلا أنه بعلاقة مع رصد تلك التحركات التي كانت تدور في الكواليس، تلقت العاصمة الرباط معلومات على قدر كبير من الأهمية، شملت تفاصيل الخطة والأطراف المتورطة فيها والأساليب المتبعة للزج بملف الصحراء في متاهات لا مخرج لها.
مثل يقظة الإعلاميين المغاربة في هكذا حالات لا يضاهيها سوى الانغمار في صلب المعركة الوطنية. وسيأتي الدور على إعلامي من ذوي القامات العالية ليتولى إبلاغ رئيس الديبلوماسية المغربية بوقائع لافتة. الأكيد أنه بادر تلقائيا بعد أن حاز على الضوء الأخضر، لأن وضعه الاعتباري أهله لأن يكون محاورا يحظى بالثقة، ففي أوضاع كهذه تنتفي تقاليد التراتبية وتحضر البديهة والإقدام والجرأة.
خط الإعلامي رسالة قصيرة من بضعة أسطر، وطلب إلي ما يقدر على إيصاله إلى وزير الخارجية داخل القاعة، تأمل رئيس الديبلوماسية فحوى الرسالة ثم وضعها في جيبه، وقد يكون فاته أن يتصرف على وحي منها، أو أنه اعتبر عامل الوقت يسمح له بالانتظار، فقد جاء رد فعله شبه فاتر. في بقية الحكاية أن طائرة رسمية استقلها أعضاء الوفد الإعلامي وبعض الديبلوماسيين، وترك للوزير أن يتدبر أمر عودته على متن رحلة عادية. فهل كان ذلك عقابا أم إنذارا؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى