شوف تشوف

الرأي

رسالة ليست تحت الماء

عندما غنى المطرب عبد الحليم حافظ رسالته تحت الماء، تذكر الناس حكايات عن خطابات كانت توضع في قوارير يرمى بها إلى البحر لتصل إلى الضفة الأخرى، أو يعثر عليها الصيادون. وما من شيء أرق الإنسان قبل الاكتشافات العلمية، أكثر من جعل الرسائل تصل إلى المُرسل إليهم، حتى صار الحمام الزاجل في خدمة الاتصال، كما هي الطبيعة سخرت لإسعاد البشرية.
لعب المرسولون دورا هاما في نقل الخطابات المكتوبة على سعف النخيل وأوراق البردي المنتقاة، قبل أن تتحول أغصان الأشجار وجذوعها إلى المطاحن التي ترديها عجينا يصنع منه الورق الذي أصبح مهددا بزحف التكنولوجيا، لا يقترب إليه إلا من يحلم باستنشاق رائحة المداد والتربة. وما من شك في أن المسافات التي كان يقطعها حملة الرسائل المتنقلون على ظهور الخيول والجمال، تبعث على الدهشة ونفوذ الصبر الذي يصمد في وجه الأيام والشهور التي كانت تستغرقها الرحلات، من مدينة لأخرى ومن قطر لآخر.. لا عربات ولا دراجات ولا قطارات ولا طائرات.
في جزئيات غير متداولة أن رسالة على قدر كبير من الأهمية، ستعبر من الأقاليم الصحراوية في اتجاه العاصمة الرباط، ستقفز فوق حواجز التفتيش التي كانت تنصبها الإدارة الإسبانية الاستعمارية قبيل جلائها عن الساقية الحمراء ووادي الذهب. لم تكن رسالة تحت الماء ولا حملها سرب حمام زاجل، بل مرسول وفي أحكم إخفاءها عن العيون والآذان. فقد أخضعته السلطات الإسبانية إلى تفتيش دقيق ولم تعثر على شيء.
يتعلق الأمر بتاجر متحدر من أصول صحراوية، عرف بأنه كان يتنقل بين جنوب الأقاليم الصحراوية وشمالها، على غرار السكان الرحل. ولم يكن في وسع الإدارة الإسبانية أن تلغي هذا التقليد، لأنه جزء من موروث حضاري انطبعت به حياة الرحل، الباحثين عن موارد المياه والتجارة وظروف الاستقرار. وعندما وقع عليه الاختيار لحمل تلك الرسالة، في أجواء من الحذر والتكتم، قضى ليلته يفكر في وسيلة لتأمين وصولها إلى المرسل إليه. بالغ في اتخاذ أقصى ما يمكن من الحيطة، وتوكل على الله.
لا معنى للرسائل إن لم تصل في وقتها. فهي إن كتبت قبله أو بعده تكون خارج السياق، وإن أمسكت بتلابيب اللحظة، يصبح إيصالها سباقا مع الزمن. كان المغرب رسميا وشعبيا يتابع تطورات الموقف الإسباني وردود أفعال القوى الصحراوية ذات التوجه الوحدوي، حيال المشروع الانفصالي الذي كان يجري الإعداد له. تارة باسم إلحاق الساقية الحمراء ووادي الذهب بالسلطة الإسبانية، عبر وهم الارتباط بإدارة البلد المحتل، وتارة بالتلويح بوضع انتقالي للالتفاف على المطالب الوحدوية المتعالية.. خصوصا في ظل إخفاق محاولات جذب شخصيات من «الجماعة الصحراوية» لدعم خطة الانفصال.
كانت العاصمة الإسبانية مدريد استضافت اجتماعا سريا في حضور مسؤولين إسبان وجزائريين وانفصاليين، وقد دعي رئيس «الجماعة الصحراوية» الشيخ خطري ولد سعيد الجماني للمشاركة في الاجتماع، لامتزاج الرأي حول موقفه، باعتباره شخصية تحظى بتقدير السكان. ومثلما رفض في لقاء سابق التأم في الزويرات الموريتانية مع شباب صحراويين استمالتهم ليبيا والجزائر مسايرة التوجه الانفصالي، عبر عن موقف حازم مفاده أنه لا يرى أي مستقبل للأقاليم الصحراوية خارج وحدة المملكة المغربية، استنادا إلى حقائق تاريخية وقانونية وروابط حضارية لا تتقادم أبدا.
عاد خطري ولد سعيد الجماني إلى العيون، وأصبحت تحركاته موضع رقابة مشددة. أدركت السلطات الإسبانية أن رهانها على «الجماعة الصحراوية» في طريقه لأن يتحول إلى سراب، يشابه كثبان الرمال التي تتلألأ مثل مياه في رؤية العطشى التائهين. وعلى قاعدة نيرون الذي أحرق روما، عمدت إلى محاولة إفراغ الصحراء من ساكنتها. فقد تواطأ عسكريون إسبان وجزائريون لتنفيذ أكبر عملية ترحيل الأهالي صوب تيندوف، بهدف إقامة معسكرات للإيهام بوجود رافضين لواقع الوحدة.
انتبه الشيخ خطري ولد سعيد الجماني إلى مخاطر اللعبة الإسبانية، ووجه رسائل إلى من يعنيهم الأمر في الرباط، يثير فيها الانتباه إلى المؤامرة التي كانت تدبرها السلطات الاستعمارية، معززة بموقف وحدوي يعكس تمسك السكان الصحراويين بمغربيتهم. واعتبرت تلك الرسالة في حينها تمهيدا عمليا لانطلاق مسيرة فريدة من نوعها من الشمال إلى الجنوب. توجت بمجيء الشيخ خطري ولد سعيد الجماني لتقديم فروض الولاء والبيعة، والتحاق قادة صحراويين بالموكب الوحدوي، من خلال التوجه إلى لاس بالماس والانتقال منها إلى أكادير، وسط أجواء من الترقب.
اضطر العاهل الإسباني الملك خوان كارلوس، في ضوء الإعداد لتسلمه مقاليد الحكم بعد رحيل الجنرال فرانكو، إلى الامتثال للحقائق التاريخية والقانونية، وزار مدينة العيون للمرة الأخيرة للإيذان بأن وقت رحيل القوات والإدارة الإسبانية قد حان.
بقيت أشواط الاتصالات بين ممثلي السكان الصحراويين والسلطات المغربية محفوظة بأوفاق السرية. ومما ساعد التاجر الصحراوي على إيصال رسالة الشيخ خطري ولد سعيد الجماني، أنه أخفاها وسط خبزة وضعها في حقيبته. حتى إذا تنبهت العيون الإسبانية إلى ما بداخل الحقيبة، رد تلقائيا بأنها خبزة تعين على سد رمق الجوع، من عناء الطريق.
وفي دلالات الجوع والظمأ أنه كان من أجل معاودة تصحيح حركة التاريخ التي شابها تزوير فاضح. وقديما قال المغاربة إن إشراك الطعام دليل على الوفاء بالعهد. ألم يعش المغاربة شمالا وجنوبا على الخبز والشاي، تجسيدا للقناعة التي لا تفنى؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى