شوف تشوف

الرئيسيةحوادث

رشاوى وتلاعبات في مشاريع بوزان تتحول إلى جريمة مالية

كريم أمزيان

بعد تخرجهما مهندسي دولة، اختار أحدهما أن يشتغل في القطاع العام، فشغل منصب المدير الإقليمي للنقل والتجهيز بوزارة عزيز رباح، بتيزنيت، بينما فضل الثاني أن يشق مساره المهني، بتأسيس شركته الخاصة، التي كانت في البداية مقاولة، قبل أن تكبر رويداً رويداً وتصبح شركة تنافس كبريات الشركات في المشاريع والطرق الكبرى. لم يكن يعتقد الطالبان اللذان أصبحا مهندسين، أنهما سيلتقيان مرة أخرى بسبب العمل، بعدما كان سبباً في تفرقهما. فحدث أن فاز صاحب المقاولة بصفقة مشروع أنجزه لفائدة المديرية الإقليمية بمدينة تيزنيت، إلا أن الصفقة حولتهما إلى طرفي ملف جريمة مالية، عرض على أنظار الهيأة القضائية المكلفة بقسم جرائم الأموال بغرفة الجنايات الابتدائية بمحكمة الاستئناف بالرباط.

في عز حرارة صيف سنة 2013، والتي تناسبت مع شهر رمضان، وبالضبط في فاتح غشت، فاجأ شخص يدعى (خ.س) عناصر الشرطة القضائية بطلبه تقديم شكاية مباشرة ضد المسمى (ع.ك.ب)، المدير الإقليمي للتجهيز والنقل بتيزنيت، من أجل «الابتزاز وطلب مبلغ مالي، على سبيل الرشوة»، ما جعل رجال الأمن الذين كانوا موجودين آنذاك بدائرة الأمن يستمعون إليه بأوامر من النيابة العامة، ففرح لذلك وبدأ في سرد التفاصيل.
شرعت الشرطة القضائية في تسجيل كل أقواله بناءً على التفاصيل التي انطلق في حكيها. بداية القصة، بحسب ما أكده، كانت لما تقدمت شركته المتخصصة في بناء الطرق والقناطر بطلب عروض بخصوص مشروع بناء الطريق الرابطة بين الركادة وسيدي احمد أوموسى بإقليم تيزنيت، التي يبلغ طولها 31 كيلومتراً، وهو الطلب الذي استفادت منه شركته، في إطار صفقة عمومية بمبلغ مالي قدره 18.400.000.00 درهم.
استرسل المشتكي (صاحب الشركة ومديرها) في سرد التفاصيل المتعلقة بهذا المشروع، الذي أكد أنه أنجزه وفق الشروط المضمنة بدفتر التحملات، الذي جرى الاتفاق عليه، مع وزارة التجهيز والنقل، مؤكداً أنه بقي في ذمة المديرية الإقليمية لهذه الأخيرة، آخر قسط لم يتسلمه بعد، محدد في 6.665.000.00 درهم، وأن مديرها (ع.ك.ب)، رفض التأشير له على وثيقة صرف مستحقات الصفقة Decompte، موضحاً أنه طالبه من أجل أن يقوم بذلك، بتسليمه مبلغ 1.300.000.00 درهم، كرشوة، وضرب له موعداً بعد إفطار يوم فاتح غشت 2013، وهو اليوم نفسه الذي تقدم فيه بالشكاية، أمام مقهى في محج الرياض بمدينة الرباط، من أجل تسليمه مبلغ 300.000.00 درهم، كجزء من المبلغ الإجمالي الذي طالبه به، على أساس أن يقوم بالتوقيع على وثيقة صرف المستحقات المذكورة، فيما يسلمه ما تبقى من مبلغ «الرشوة»، بعد حصول المقاول على القسط الثالث من مبلغ الصفقة.
أمام هذه المعطيات الدقيقة والمعلومات التفصيلية، لم تجد عناصر الشرطة القضائية سوى أن تنتقل رفقة المقاول المشتكي، إلى المكان المحدد للموعد، وهناك عاينت الأخير يلتقي بصديقه الذي أصبح مديراً إقليمياً بوزارة التجهيز والنقل، الذي صعد إلى سيارته، ومكث معه فيها لحظات قليلة، قبل أن يترجل منها، وبيده ظرف كرتوني، وفي تلك الأثناء أوقفه رجال الشرطة وحجزوا لديه الظرف الكارتوني، حيث كان بداخله مبلغ مالي كبير، حيث أفاد الظنين لحظتها أن «تسلمه كرشوة مقابل توقيعه وثائق صرف مستحقات صفقة تخص شركة صديقه، الذي كان معه في سيارته».

اعتقال فجائي
أمر الوكيل العام للملك بمحكمة الاستئناف بالرباط، أن يتم اعتقال (ع.ك.ب) في الحين، فتم اقتياده إلى مخفر الشرطة، وهناك بدأت إجراءات البحث التمهيدي معه، متحوزاً بالمبلغ المالي الذي يوجد في الظرف، بعدما أدلى المشتكي بنسخة من وثيقة صرف المستحقات «Decompte»، التي وقعها المتهم قبل تسلمه المبلغ المالي، محتفظاً بأصولها قصد تقديمها أمام العدالة، وفق ما صرح به لعناصر الشرطة القضائية، واضعاً بين أيدي أفراد الشرطة قرصاً مدمجاً يحتوي على حوار مصور دار بينهما، صوره بنفسه في 23 يوليوز من السنة ذاتها، طالب خلاله صديقه بمنحه إتاوة حتى يوقع له الوثيقة التي ستمكنه من سحب مستحقات شركته.
وبعد الاستماع إلى (خ.س)، الطرف الأول، تم الاستماع إلى المتهم الذي كان موجوداً حينئذ في حالة اعتقال، فتمت مواجهته بنسخ من بعض أوراقه المالية، وكذا توقيعه على وثيقة صرف المستحقات «Decompte»، بمبلغ 6.665.000.00 درهم، وسرعان ما اعترف الأخير بالمنسوب إليه، مؤكداً أن المبلغ الذي جرى حجزه لديه، هو مجرد تسبيق للمبلغ المتفق عليه، إذ اعترف أنه استغل منصبه كمدير إقليمي للتجهيز والنقل من أجل الحصول على منفعة مالية، من قبل المقاول (خ.س)، الذي لم يكن سوى صديقه.
انتهت مدة الحراسة النظرية، التي ظل خلالها المتهم الذي كان مهندساً بمعية زميله، بعدما تخرجا معاً من المدرسة نفسها، في سجن مخفر الشرطة الذي لم يسبق له أن ولجه منذ أن رأى النور في فاتح يناير 1978 بالهلالمة ببني ملال، إلى أن دخله بعد اتهامه بـ«الارتشاء عن طريق طلب وتسلم هبة للقيام بعمل من أعمال وظيفته واستغلال النفوذ». ثم أحالته عناصر الشرطة القضائية على الوكيل العام للملك بمحكمة الاستئناف بالرباط، في 03 غشت 2013، أي بعد 48 سنة من لحظة اعتقاله، فكشف له حينما باشر باستنطاقه، أنه بعدما قام بتوقيع كشوفات الأداء لفائدة المشتكي داخل سيارة الأخير، تفاجأ به يسلمه كيساً من الورق المقوى، وأنه لم يكن يعلم ما بداخله، قبل أن يشعره صديقه أنها مجرد هدية، بمناسبة حلول شهر رمضان. مضيفاً وهو يجيب عن تساؤلات النيابة العامة، أنه تفاجأ بعد نزوله من السيارة، بإيقافه من قبل عناصر الأمن، التي أخذت منه الظرف الذي كان يحتوي على «الهدية» التي سلمها إليه صديقه، نافياً أن يكون قد طلب من المقاول أي مبلغ مالي أو رشوة أو إتاوة، من أجل أن يسهل له عمله. مشيراً في السياق ذاته، إلى أنه جرت العادة أن تتلقى المصلحة التي يعد مسؤولها، الهدايا الرمزية من المقاولات الكبرى، خلال العديد من المناسبات السنوية، كرأس السنة الميلادية وبعض الأعياد الدينية. أما في ما يخص «الهدية» التي تسلمها من صديقه المقاول، فقد شدد للوكيل العام أنه تم الإيقاع به من قبله، بعد أن رفض التساهل معه من أجل إعفائه من فوائد التأخير.
لم تقتنع النيابة العامة بالإفادات والتصريحات التي أدلى بها الظنين، خلال استنطاقه، فأمرت في اليوم نفسه، الذي جرى خلاله تقديمه أمامها، من أجل متابعته بجناية «الارتشاء عن طريق طلب وتسلم هبة، للقيام بعمل سهلته له وظيفته، واستغلال النفوذ»، وذلك طبقاً للفصلين 248 و250 من القانون الجنائي، بإحالته في حالة اعتقال على غرفة الجنايات الابتدائية لمحاكمته، طبقاً لما ينص عليه القانون.

إحالة على المحكمة
بينما ذهب المقاول لتسوية وثائقه من أجل تسلم أوراق تثبت إكماله المشروع، الذي أنجزه لفائدة وزارة التجهيز والنقل، وأخذه بقية مستحقاته، نقلت عناصر الشرطة القضائية (ع.ك.ب)، المدير الإقليمي للتجهيز والنقل بتيزنيت، من مكتب الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بالرباط، إلى سجن سلا، الذي سيمضي فيه فترة اعتقاله احتياطياً، بالموازاة مع مرور جلسات المحكمة، التي تشهد أطوار محاكمته.
لم يمر الملف 2013/2624/8 الذي يهم اتهاما بـ«الارتشاء عن طريق طلب وتسلم هبة، للقيام بعمل سهلته له وظيفته، واستغلال النفوذ»، إثر تأكيد صديقه المقاول ابتزازه، من مرحلة التحقيق، بالنظر إلى أن القضية كانت تلبسية، ما جعل الملف يمر مباشرة إلى المحاكمة، بعد إحالته من قبل النيابة العامة على غرفة الجنايات الابتدائية بمحكمة الاستئناف، حيث توجد الهيأة القضائية المكلفة بملفات الجرائم المالية، التي ستبت فيه.
محاكمة ومواجهة
بعد تعيين أولى جلسات هذا الملف أمام الهيأة القضائية المكلفة بقسم جرائم الأموال بغرفة الجنايات الابتدائية بمحكمة الاستئناف بالرباط، في 06 غشت 2013، التي تم إرجاؤها بطلب من هيأة الدفاع، من أجل الاطلاع على الملف وإعداده، تم تأجيل مناقشته والاستماع إلى مرافعات دفاع أطرافه ومرافعة النيابة العامة فيه، وتم تجهيزه لجلسة 25 نونبر 2013، التي حضر فيها المتهم (خ.س) في حالة اعتقال، مؤازراً بدفاعه القادم من هيأة مكناس.
لحظات قليلة بعدما تأكد رئيس الجلسة، من حضور أطراف الملف، والمحامين الذي يؤازرونهم، والتحقق من هوياتهم، بدأ في مناقشة الملف من خلال الاستماع إلى المتهم، الذي أكد أنه مهندس دولة مسؤول عن المديرية الجهوية للنقل والتجهيز بمدينة تيزنيت، توجد تحت إمرته عدد من المصالح التابعة له بصفته، التي تسمح له بتتبع الأشغال التي تقام لفائدة وزارة التجهيز والنقل التي يوجد على رأسها عزيز رباح، وأن مهامه تتمثل في المراقبة والإشراف على جميع تلك المصالح، وأن الصفقات إذا استوفت جميع الشروط يتوصل المقاول الذي عهدت إلى شركته أو مقاولته مهام إنجازها، بكل مستحقاته غير منقوصة، دون أن يقدم أي هدايا. قبل أن يعود للحديث عن الصفقة التي هي موضوع الملف الذي يتابع من أجله، ودخل بسببه السجن، في إطار متابعته في حالة اعتقال، مشيراً إلى أنها تتعلق بطريق طولها 31 كيلومتراً، وهي من إنجاز صندوق تمويل الطرق، الذي يوجد مقره الرئيسي بالرباط، وهي الصفقة التي أكد أنها أبرمت على المستوى المركزي، قبل وصولها إلى مدينة تيزنيت، حيث جرت أشغالها، التي قامت بها مقاولة يعرف صاحبها تمام المعرفة، بعدما درسا معاً، وتخرجا كمهندسي دولة، وكانا يحضران معا اجتماعات إعداد تسلم الصفقة من أجل إنجازها، إلى أن اكتملت وحان موعد تسلمه مستحقاته، التي ترتبط، فضلاً عن توقيعه الشخصي، بإمضاء رئيس مصلحة التجهيزات الأساسية، وهو ما جعل صديقه (المشتكي) يتصل به يوم الواقعة، مشدداً على أنه اتصل بصفته مديراً إقليمياً بكاتبته، وأكدت له أن المقاولة استوفت جميع الشروط، ما جعله يلتقي بالمقاول بعد إلحاحه، وسهل له العملية على متن سيارته دون أن يدري أنه أعد له هدية أوقعته في الفخ، فجرى اعتقاله قبيل أذان صلاة المغرب. قبل أن يشير بعدما سألته المحكمة عن تناقض كلامه مع ما سرده خلال الاستماع إليه، في مرحلة البحث التمهيدي، إلى أن تصريحاته أمام الضابطة القضائية وقع محضر تدوينها، دون أن يطلع عليها.
بعد انتهائها من الاستماع إلى إفادات المتهم، وإلى إجاباته بخصوص أسئلتها، نادت هيأة المحكمة على (خ.س) بصفته مطالباً بالحق المدني في الملف، من أجل أن تستمع إلى تصريحاته هو الآخر، التي أدلى من خلالها بأنه هو المسؤول القانوني عن الشركة التي يملكها، والتي أنجزت مشروع الطريق المذكورة، وبعد إكمال كل ما تعهدت به من بنود واردة في دفتر التحملات، تفاجأ بالمسؤول الذي هو المتهم الماثل أمام المحكمة، يرفض توقيعه، بعدما حاول نيل توقيعه أكثر من مرة، كان آخرها لما التقاه أمام سوق ممتاز في حي الرياض بمدينة الرباط، إلا أنه اضطر في آخر المطاف إلى الرضوخ لأوامر (ع.ك.ب)، المدير الإقليمي للتجهيز والنقل بتيزنيت، وباتفاق مع رجال الأمن الذين نصبوا له كمينا، ونسخوا أوراقاُ مالية، منحه المبلغ الذي طلبه منه، قبل أن يتم اعتقاله أمام عينيه.

السجن والغرامة وإرجاع «الإتاوة» إلى صاحبها
كل المعطيات الواردة في الملف، خصوصاً حالة التلبس والاعترافات الضمنية للمتهم خلال مرحلة البحث التمهيدي معه، التي تراجع عنها أمام المحكمة، جعلت الهيأة القضائية المكلفة بقسم جرائم الأموال بغرفة الجنايات الابتدائية بمحكمة الاستئناف بالرباط، تقرر مؤاخذة المتهم من أجل ما نسب إليه، والحكم عليه بسنتين ونصف السنة حبساً نافذاً، وبغرامة مالية نافذة قدرها خمسة آلاف درهم، مع الصائر والإجبار في الأدنى، وبإرجاع المبلغ المالي المحجوز إلى صاحبه، فيما لم تقبل المطالب المدنية المقدمة من طرف الشركة، وقبلت فقط المطالب المدنية المقدمة من قبل خالد سرغات بصفته الشخصية، ما جعلها تحكم على الظنين بأدائه لفائدة المطالب بالحق المدني، تعويضاً مدنياً رمزياً يصل إلى درهم واحد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى