شوف تشوف

الرأي

زيارة تلتئم بعد أزيد من ثلاثة عقود

ثلاثة أو أربعة أيام قبل مغادرته وزارة الدفاع، كان المحجوبي أحرضان لا يزال يأمل في مرافقة الملك الحسن الثاني إلى باريس، في زيارة ذات رمزية عالية. وأي شيء أبلغ بالنسبة لرجل حمل السلاح، من أن يحضر استعراضا عسكريا كبيرا، خصوصا إذا كان في باريس التي كان يخال نفسه متجولا فيها مثل سمكة في الماء.
لم يكن من العسكريين القدامى من ينازعه في هذه المعركة غير الجنرال محمد أوفقير، الذي كان يتقبل على مضض أن يكون أحرضان وزير دفاع وليس هو. وسيعود «الزايغ» إلى باريس وزيرا للبريد وعارض لوحات تشكيلية وقارض شعر بالفرنسية، بينما لن تطأ قدما أوفقير باريس منذ زيارة أخيرة، أصبح بعدها المتهم رقم واحد في اغتيال سياسي علق بذاكرة الأجيال والدول.
كان لأحرضان أصدقاء كثر في فرنسا، ولم يكن منغلقا في الانفتاح العسكري، رغم الحواجز الإيديولوجية. ويحسب له أنه خلال مروره بوزارة الدفاع أبرم اتفاقيات تعاون مع الاتحاد السوفياتي، لأنه كان ينظر إلى مجالات التعاون الدفاعي فوق الاعتبارات الإيديولوجية. وعندما ذهب إلى باريس للإعداد لزيارة الملك الحسن الثاني، لم يخامره شك في أنها ستتم وفق التقاليد البروتوكولية المتفق على ترتيباتها الدقيقة.
يقول أحد رجالات المرحلة إن وزير الدفاع المغربي عاد من باريس وفي أجندته أن أبوابا أكثر اتساعا انفتحت أمام باريس والرباط لتطوير تفاهمات وتعاقدات عسكرية ومدنية. وغاب عنه أنه سيعود إليها بعد أزيد من سنة، تاركا وزارة الدفاع لخلفه الجنرال محمد أمزيان الزهراوي، بعد أن عهد إليه بوزارة الفلاحة والإصلاح الزراعي. فقد طلب إليه الإدلاء بشهادته حول تشابك منعرجات أحاطت بقضية المعارض الزعيم المهدي بن بركة.
في تفاصيل التحضير لزيارة الحسن الثاني أن الجنرال ديغول كان أبدى اهتماما خاصا بمشاركة العاهل المغربي الراحل، الذي كان يرغب في أن يكون إلى جانبه لدى تنظيم استعراض عسكري في شارع «الشانزليزيه». فقد ارتبطت علاقاتهما، رغم فارق السن، بالتقدير والاحترام. وروى الحسن الثاني أن الرئيس ديغول سلمه نص الخطاب الرسمي الذي كان سيلقيه على شرفه في مأدبة عشاء، ما اعتبره دلالة فائقة الاعتبار، قبل أن تتعرض علاقات الرجلين والبلدين إلى هزات عنيفة، دامت سنوات.
محطتان هيمنتا على الأجندة الملحة للحسن الثاني، كانت الأولى تهم سفره إلى الجزائر، بينما الثانية تخص المشاركة في حفل استعراض عسكري في باريس. وبين رحلة العقيد أحمد الدليمي، نائب المدير العام للأمن الوطني، إلى الجزائر، وذهاب أحرضان إلى باريس، ستضيع الخيوط وسيحدث ما يعصف بالزيارتين في آن واحد. وظل أحرضان أبعد مسافة عن تطورات تابعها مثل كل المغاربة، ولسان حاله يقول: تجري الرياح بما لا تشتهيه السفن.
بعد انقضاء أزيد من ثلاثين سنة على وقائع تلك الزيارة التي لم تتم، سيلقي الحسن الثاني آخر نظرة على باريس في مناسبة استعراض عسكري تأخر موعده كثيرا، وكان إلى جانبه حامل مشعل الديغولية الرئيس الأسبق جاك شيراك، وبقي اللغز محيرا، هل أراد الحسن الثاني أن يحقق وعده بعد مرور كل تلك الفترة؟ أم أن ولعه بالتاريخ جعله يختار الإطلالة على «الشانزليزيه» لتصحيح مسار انفلت زمام السيطرة عليه من بين يديه؟
تقول الحكاية إن موفدا من قصر «الإليزيه» حل بالرباط، بضعة أيام بعد حادث اختطاف واغتيال المعارض المهدي بن بركة. كان يحمل رسالة محددة تحث الرباط على ترحيل الجنرال محمد أوفقير إلى باريس لمواجهة اتهامات بالضلوع في الحادث. لكن الحسن الثاني اعتبر الأمر أقل احتراما وأكثر استفزازا في شكله ومطلبه. لم يكن حامل الرسالة بدرجة عالية في تقاليد الندية الدبلوماسية التي يتخاطب بها المسؤولون بالإشارات، كما لم يترك مضمونها للسلطات المغربية فرصة التقاط الأنفاس إزاء حادث هز الأرجاء.
سيرد الحسن الثاني بأنه كان في وسع الجنرال ديغول أن يبعث إليه بما يتوفر عليه من دلائل اتهام وزيره في الداخلية الجنرال أوفقير، آنذاك يمكن البحث في المسار الذي ستأخذه الأحداث. ومما تسرب وقتذاك أنه قال إنه كان بصدد الإعداد لزيارته إلى باريس، ولا يمكن والحالة هذه أن يكون في صورة أية عملية دبرت للإساءة للعلاقات المغربية – الفرنسية. لكن الأهم أن تلك الزيارة ألغيت، وزاد في تعقيد الموقف أن باريس استدعت سفيرها في الرباط، ما حذا بالمغرب إلى الرد بالمثل، ودخلت علاقات البلدين في نفق مظلم.
حدثان سيلفتان الانتباه لاحقا، بعد جسر العلاقات المتوترة، أولها أن الحسن الثاني سمع، خلال زيارة لاحقة إلى باريس في صيف العام 1972، ما يفيد بأن هناك في المرجعية الأخلاقية للدولة الفرنسية ما يفيد بإمكان صدور عفو رئاسي عن شخص قدم خدمات إلى فرنسا، ولو كان لا يحمل جنسيتها. وحين استفسر مخاطبه عن مناسبة ذلك الاقتراح، أدرك أن الأمر كان يتعلق بالجنرال محمد أوفقير الذي أدانه القضاء الفرنسي بالسجن مدى الحياة في قضية المعارض المهدي بن بركة. لكنه لم يعر اهتماما إلى الموضوع، إلا أثناء عودته إلى الرباط حين تعرضت الطائرة التي كان يقلها إلى هجمات دبرها الجنرال نفسه.
أما الثاني فيتمثل في أن الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران، لدى قيامه بأول زيارة رسمية إلى المغرب، لم يكن الجنرال أحمد الدليمي على قيد الحياة. وبين الحالتين والرجلين بقيت مناطق ظل كثيرة تحجب رؤية العين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى