الرأي

شرارة الحروب

لا تحتاج الحرب لأكثر من أحمقين وبارود وغضب، لكن من يدفع الثمن هم الجنود التعساء من دم ودمار وبؤس لا يطاق.
حسب توينبي المؤرخ عن الحرب فإنها كانت ملهاة الملوك، فيتسلون من بعيد وهم يرون الأبطال يذبح بعضهم بعضا بخنجر يقطع، ورمح يبقر، وسهم يخرق. يروى عن تيتيوس في افتتاحه الكولسيوم أن الاحتفالات دامت مائة يوم قتل فيها الآلاف من العبيد والآلاف من الضواري والناس تزعق جوجولار جوجولار أي اذبح اذبح وهم منتشون برؤية الدم الأحمر المهراق.
ولكن مع دخول مفهوم الحرب الشاملة، لم يعد أي مواطن بمنأى عن الصراع ولو سكن في بروج مشيدة، كما رأينا في مسرح كاتابلان الفرنساوي في 13 نوفمبر 2015 م حيث كان ملك الموت يمد يده فيقبض في ضربة واحدة أرواح 129 إنسانا بريئا، يأكل ويشرب ويتمتع ويعد نفسه لأمسية مسلية؛ فتسلى بالموت؛ فإلى أهله لم يحور.
في 15 جولاي من عام 1870م تقدم السفير الفرنسي (بنيديتي) إلى القيصر (فيلهلم) الألماني بطلب إعطاء ضمانة أن لا يسمح بتولية الأمير الألماني (ليوبولد هوهن تسوليرن) على عرش إسبانيا، إذ كانت العروش يومها من نصيب العائلات.
رفض الملك البروسي الطلب بأدب. كان اللقاء في مدينة أيمز الألمانية، وحين أرسل القيصر نص البرقية إلى مستشاره (فون بسمارك)، قام الأخير بتعميمها على الصحافة.
كانت حركة بسمارك مقصودة، مما حرك غضب إمبراطور فرنسا (نابليون الثالث)، وتحت ضغط من زوجته المغناج (يوجينيا) وحماس وزير الدفاع أعلن الحرب في خمسة أيام في 19 جولاي على ألمانيا التي رحبت بذلك، واندفعت الجيوش فهم من كل حدب ينسلون، والناس تصرخ في ألمانيا: إلى باريس، والفرنسيون يفتلون شواربهم ويزعقون اللقاء في برلين.
كان وزير الحربية يومها (هيلموت كارل فون مولتكه) ـ ومساعده الدماغ الحربي كلاوسفيتس صاحب كتاب عن الحرب (Vom Kriege – Clauswitz) من شياطين الإنس؛ فحبك خطة لتطويق الجيش الفرنسي المنقسم تحت قيادتين منفصلتين (مكماهون) و(بازين)، وجاء الحسم في معركة (سيدان) التي هزم فيها الفرنسيون، وخسروا أكثر من مائة ألف قتيل، وسجن نابليون الثالث (ذو الشوارب الطويلة المرفوعة) ودخل الألمان باريس، وتوجوا (فيلهلم) قيصرا لألمانيا الموحدة، وتم توقيع معاهدة مذلة في عربة قطار، وفرض على فرنسا دفع تعويضات الحرب بما يعادل مليار دولار، ووقتها كانت هائلة، فقامت فرنسا بجمعها من جيوب مواطنين مهزومين في ثلاث سنين، وتهيئة النفس لرد الاعتبار في جولة قادمة! وهو ما جاء خبره في الحرب العالمية الأولى (التي كانت جداتنا ترويها لنا باسم سفربرلك).
بداية الحرب في حفلة جنون في خمسة أيام في حرب عام 1870 م ليست الوحيدة، فحرب عام 1914 بدأت في سراييفو بطلقة من (جافريلو برنسيب) زعيم عصابة الكف الأسود، حين قتل الأرشيدوق النمساوي فرديناند وزوجته صوفي في عربة مكشوفة، دفع الإمبراطور العجوز المخرف (جوزيف) أن يضع شروطا مستحيلة (14 شرطا جنونيا) على صربيا تقول لها ارفضي؟ فبدأت الحرب لتنحاز ألمانيا إلى جنب النمسا، وتقفز روسيا الى جنب صربيا كما هو الحال هذه الأيام في تحالف (بوتين) مع طاغية دمشق البراميلي، ولتندلع الحرب العالمية الأولى بدمار نصف أوربا، ومقتل عشرات الملايين، ونزوح ملايين لا يحصيهم كتاب ولا يضمهم دفتر. كما هو في الكارثة السورية هذه الأيام.
يقول الروائي النمساوي ستيفان تسفايج عن الجو العام في أوربا كيف كان كسولا مرتخيا قبل اندلاع الحرب، ما يدفع إلى التفاؤل، بعام جميل ليس فيه أثر بارود ونار ودم ودمار.
أما برتراند راسل الفيلسوف البريطاني الذي عاصر النكبات فهو يكرر نفس الشيء بكلمات مختلفة حين يقول أن الحرب العالمية الأولى كانت مفاجئة غير متوقعة أما الثانية فكانت تحصيل حاصل بموجب معاهدة فرساي المذلة كما كانت في قصة عربة القطار الفرنساوية (بالمناسبة فرض الفرنسيون على الألمان التوقيع على الاستسلام في نفس عربة القطار الملعونة مع غرامات الحرب).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى