الدوليةالرئيسية

شهيد بلاد الأرز.. اغتيال رفيق الحريري

الشهيد رفيق الحريري، هو رئيس وزراء لبناني أسبق، من طينة خاصة: كان من مهندسي المصالحة الوطنية الإقليمية اللبنانية بعد الحرب الأهلية التي نخرت هذا البلد طيلة ثلاثة عقود. وكان مهندس إعادة بناء لبنان اقتصاديا وعمرانيا ومهندس مصالحة سياسية وطنية بين كل الفرقاء السياسيين المتناحرين وقتئذ. صاحب وليد جنبلاط والدروز، وصاحب حسن نصر الله وشيعة لبنان، وأقام مصالحة مع كبار قادة الجيش على رأسهم ميشيل عون، وأدمج بذكاء كبار أثرياء البلد في الأوراش الإصلاحية السياسية الكبرى منهم أسرة ميقاتي وأسرة بري والعديد من الأسر المارونية الأخرى. فتحولت لبنان خلال العشرية 1992-2002 إلى قبلة سياحية واستثمارية كبيرة ورائدة.

لكن مصائر الدول وبالأخص دول تلك البؤرة المتوترة في الشرق الأوسط، في الرقعة ما بين مصر وفلسطين وسوريا ولبنان والأردن، ليست مصائر تحاك على محك التنمية الاقتصادية الخطية، بل تدخل فيها عوامل إقليمية وتنعكس فيها صراعات القوى الإقليمية الكبرى (السعودية وإيران) وكذا صراعات الجوار الشائك ما بين سوريا ولبنان على مشارف إسرائيل.

لكن دوما، وأنا أكتب عن لبنان، وقد كتب لي أن أكون فيها في نفس الفترة التي اغتيل فيها رفيق الحريري (فبراير 2005)، أجدني ملتفا بأحاسيس خاصة لبلد دامت فيه الأزمات لكنها لم تعرقل أبدا توهجه الإقليمي لا ثقافيا ولا إعلاميا ولا ماليا واقتصاديا. حيث ظل الإنسان اللبناني متمسكا بقيمه الإنسانية التي تجعل منه متميزا وذو خبرة. وبالتالي فقصة قتل الحريري وقبله أسماء كثيرة ككمال جنبلاط (أب وليد جنبلاط ومؤسس الحزب الاشتراكي التقدمي بلبنان) وبشير جميل (أخ زعيم الوسط ورئيس لبنان السابق المسيحي أمين جميل) وأسماء من بعده مباشرة كسمير قصير (صحفي بارز بجريدة النهار) ووليد جميل (وزير النقل) ومحاولات اغتيال سياسيين بارزين… تبقى قصة نرويها عن بلد عربي يتميز بفسيفساء عقائدية ودينية وسياسية معقدة، ويعطي المثال للمجتمع المركب الحقيقي، المجتمع الأكثر ممارسة للسياسة والثقافة والسجال الإعلامي.. وهو بلد صغير لكنه يقع في منطقة آهلة بالصراع وبالحرب.

تروي زوجة رفيق الحريري، السيدة نازك، آخر يوم في حياة زوجها: استيقظ الشهيد رفيق الحريري عند السادسة صباحا، وكان يعرف أن هنالك اجتماعا للجان في المجلس النيابي، وكان محتارا ما إذا كان سيحضر أم لا، لكنه كالعادة بدأ باستقبال زواره، الذين يتوافدون عليه منذ السادسة صباحا، وكثيرا ما كان هو من يوقظهم من النوم ويطلبهم للمجيء.

تقول التحقيقات، بناء على تصريحات شهود عيان ومرافقين، أنه عند الحادية عشرة و40 دقيقة انطلق موكب الرئيس الشهيد رفيق الحريري إلى مجلس النواب، وكان مبتسماً وفرحاً ودخل إلى اجتماع اللجان وصافح نوابا ومازحهم، ثم جرى حديث عن الانتخابات النيابية، فقال لهم ايضاً مازحاً، سنخسر الانتخابات هذه المرة.

وعند الساعة الثانية عشرة و44 دقيقة، كان الرئيس رفيق الحريري يأكل البوظة في مطعم قبالة مجلس النواب مع الصحافيين شقير وسلمان، ثم انطلق بعد دقيقة بالسيارة، ووصل إلى تقاطع فندق فينيسيا. كان أمامه 4 جيبات لقوى الأمن الداخلي مسرعة لفتح الطريق وموكبه مؤلف من 7 سيارات، مرسيدس سوداء اللون، والسيارة التي يركبها الرئيس الشهيد رفيق الحريري مصفحة تصفيحا مزدوجا، أي أنها لا تخرق أبدا إلا بقذيفة.

وما أن مرت سيارة الحريري بمسافة 6 امتار حتى انفجرت سيارة الرئيس الشهيد رفيق الحريري جراء انفجار ألفي كيلوغرام من المتفجرات كانت محملة على شاحنة في طريق الموكب.

اهتزت بيروت كلها، والذين كانوا في فندق فينسيا رأوا منظرا مرعبا: الثريات تسقط أرضا، والزجاج يتطاير والسيارات تحترق كما انشطرت الأرض وترك التفجير حفرة كبيرة. أما الرئيس رفيق الحريري، حسب التحقيقات، فقد جعله الانفجار يقفز من السيارة الى مسافة 3 امتار، وتعرف عليه حراسه الذين نجوا من خلال خاتم زواجه.

شيراك، صديق الرئيس الحميم، أصيب بالذهول، وكان يتصل كل دقيقة، أخيرا اخذ السفير الفرنسي ببيروت الهاتف وقال للرئيس شيراك، بأنه موجود في مستشفى الجامعة الأميركية، وأن الرئيس رفيق الحريري قد توفي. فبكى شيراك على الهاتف. جورج بوش أيضا كان يسأل عما حصل، والدول كلها تريد التأكد اذا كان الرئيس رفيق الحريري ميتا ام حي. يبدو في النهاية أن رفيق الحريري لم يكن أبدا الرئيس الذي يجدر تصفيته وبالأخص بهذه الطريقة البشعة.

رفيق بهاء الدين الحريري، ولد في صيدا في جنوب لبنان لأب مزارع. أنهى تعليمه الثانوي عام 1964، ثم التحق بجامعة بيروت العربية ليدرس المحاسبة، وفي تلك الفترة كان عضوًا نشطًا في حركة القوميين العرب والتي تصدرتها آنذاك الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.

في عام 1965 قطع دراسته بسبب ارتفاع النفقات المالية وهاجر إلى السعودية، وعمل مدرسًا للرياضيات في مدرسة السعودية الابتدائية في جدة، ثم عمل محاسبًا في شركة هندسية. وفي عام 1969 أنشأ شركته الخاصة في مجال المقاولات والتي برز دورها كمشارك رئيسي في عمليات الإعمار المتسارعة التي كانت المملكة تشهدها في تلك الفترة. ونمت شركته بسرعة خلال سبعينيات القرن العشرين حيث قامت بتنفيذ عدد من التعاقدات الحكومية لبناء المكاتب والمستشفيات والفنادق والقصور الملكية.

وفي أواخر سبعينيات القرن العشرين قام بشراء «شركة أوجيه» الفرنسية ودمجها في شركته ليصبح اسمها سعودي أوجيه، وأصبحت الشركة من أكبر شركات المقاولات في العالم العربي، واتسع نطاق أعماله ليشمل شبكة من البنوك والشركات في لبنان والسعودية، إضافة إلى شركات للتأمين والنشر والصناعات الخفيفة. وقد حظي باحترام وثقة الأسرة السعودية الحاكمة وتم منحه الجنسية السعودية في العام 1978. وفي مطلع الثمانينيات أصبح واحداً من بين أغنى مائة رجل في العالم، وعمل خلال الثمانينيات كمبعوث شخصي لملك السعودية فهد بن عبد العزيز آل سعود في لبنان، ولعب دورًا هامًا في صياغه اتفاق الطائف.

كانت فترة توليه رئاسة الحكومة الأولى من 1992 وحتى 1998، وقوبل تعيينه آنذاك بحماس كبير من غالبية اللبنانيين. وخلال أيام ارتفعت قيمة العملة اللبنانية بنسبة 15%. ولتحسين الاقتصاد قام بتخفيض الضرائب على الدخل إلى 10% فقط. وقام باقتراض مليارات الدولارات لإعادة تأهيل البنية التحتية والمرافق اللبنانية، وتركزت خطته التي عرفت باسم «هورايزون 2000» على إعادة بناء بيروت على حساب بقية مناطق لبنان. وخلال هذه الفترة ارتفعت نسبة النمو في لبنان إلى 8% بعام 1994، وانخفض التضخم من 131% إلى 29%، واستقرت أسعار صرف الليرة اللبنانية.

كانت فترة توليه رئاسة الثانية من 2000 وحتى 2004، وخلال هذه الفترة أدى عمق المشكلات الاقتصادية إلى زيادة الضغوط على الحكومة من قبل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وعليه تعهد بتخفيض البيروقراطية وخصخصة المؤسسات العامة التي لا تحقق ربحًا. استقال في أكتوبر 2004 بعد خلاف مع الرئيس إميل لحود وهو الصراع الذي استفحل بعد تعديل الدستور لتمديد فترة رئاسة الرئيس إميل لحود لثلاث سنوات إضافية (لحود كان رئيسا مواليا لسوريا).

لم تكن سوريا تستحسن هذه الدينامية التي بدأت تسير عليها لبنان وهي التي كانت دوما تقر بوصايتها العسكرية والسياسية والاقتصادية عليه. واستشاط النظام السوري غضبا عندما شرع الحريري في إصلاح النظام المصرفي وقطع الطريق على ناهبي أموال لبنان من طرف كبار كوادر نظام البعث السوري. ويروي غسان سلامة وزير الثقافة الأسبق في حكومة الحريري أن بشار الأسد، خلافا لوالده حافظ الذي كان لصرامته يحترم تعهداته ويضع مسافة من مال اللبنانيين، طوق نفسه بشبكة من الانتهازيين و”اللصوص” من كبار كوادر سوريا ومن لبنان أيضا ليستبيح أموال واحتياطات بنوك بيروت. وأنه بعدما تدخل الحريري ليعيد منظومة عمل البنوك، تعرض المصرف المركزي ببيروت لعدة عمليات سرقة مسلحة واختفت مليارات من الدولارات.

النقطة التي أفاضت الكأس هي عندما سيضع الحريري لبنان في أيدي مستثمرين من السعودية (الوليد بن طلال) ومن الإمارات العربية المتحدة ومستثمرين من فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، ويغلق الباب عن امتداد سوريا في اقتصاد لبنان الناشئ والغني بالعملة الصعبة.

لم يكن رفيق الحريري يعطي أي اهتمام لطلبات وتوصيات وتوجيهات رئيس البلاد إميل لحود الموالي لبشار الأسد، وستزداد الأمور اختناقا على لحود عندما سيربح رئيس الوزراء الأغلبية في المجالس الوزارية لاتخاذ قرارات الحريري. سيتصل بشار الأسد برفيق الحريري أسبوعا قبل الاغتيال، يدعوه لاجتماع طارئ بالقصر الرئاسي بدمشق. الغريب هو أن توقيت الاجتماع هي السابعة والنصف صباحا ومدته 10 دقائق ومضمونه هو توجيه بشار للحريري بكومة تهديدات لتصفية كل من أمرت له نفسه بتضييع مصالح سوريا بلبنان.

في 14 فبراير 2005، اغتيل رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري مع 21 شخصًا، عندما انفجر ما يعادل 1000 كيلوغرام من مادة tnt أثناء مرور موكبه بالقرب من فندق سان جورج في بيروت. وكان من بين القتلى العديد من حراس الحريري وواحد من اصدقائه، بالإضافة إلى وزير الاقتصاد اللبناني الأسبق باسل فليحان. دفن الحريري مع حراسه في موقع قريب من جامع محمد الأمين. في 6 فبراير 2006، اتفقت الحكومة اللبنانية والأمم المتحدة على تشكيل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، وعدت هذه المرة الأولى التي تحاكم فيها محكمة دولية أشخاصًا لجريمة ارتكبت ضد شخص معين. استنادا لسي بي سي نيوز، وصحيفة وول ستريت وصحيفة هاآرتس الإسرائيلية، بالإضافة الى المحكمة الدولية الخاصة بلبنان جنبا الى تحقيق مستقل قام به النقيب وسام الحسن، فإنه تم العثور على أدلة دامغة تثبت تورط ميليشيا حزب الله والنظام السوري بتواطؤ مع كوادر في الأمن القومي اللبناني في عملية الاغتيال.

وعقب اغتيال الحريري حصلت عدة انفجارات واغتيالات ضد شخصيات مناهضة للوجود السوري في لبنان وكان من بينها: سمير قصير، جورج حاوي، جبران غسان تويني، بيار أمين الجميل، وليد عيدو. كما تمت محاولة اغتيال كل من: إلياس المر، مي شدياق، وسمير شحادة (الذي كان يحقق في قضية اغتيال الحريري).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى