شوف تشوف

صدام المصالح (3/3)

من عادة مصطفى الخلفي، وزير الاتصال المقرب جدا من رئيس الحكومة، عندما يكون في واشنطن أن يذهب إلى مواعده بصحبة موظف وسائق من السفارة المغربية، لكنه خلال تواجده بواشنطن الشهر الماضي شذ عن هذه القاعدة، وقرر الذهاب بمفرده إلى موعده مع الصحافي روبرت لوني، كاتب مقال «الوقت بدأ ينفد أمام المغرب» بمجلة «فورين بوليسي».
لذلك، فلدي قناعة راسخة بأن ما كتبه هذا الصحافي الأمريكي ما هو إلى رجع صدى لما أفتاه عليه مصطفى الخلفي في لقائه السري به، والهدف هو إرسال حزب العدالة والتنمية رسالة إلى المؤسسة الملكية من واشنطن، حتى يكون التأثير أقوى.
يعي حزب العدالة والتنمية شيئا بالغ الأهمية والخطورة في الوقت نفسه، وهو الحزب المجرب لأهمية حساب التوازنات مع القصر ومحيطه، يعي أن العامل التاريخي في انفتاح النظام السياسي بالمغرب، إثر اهتزازات الشارع المغربي سنة 2011، هو عامل تاريخي حاسم يجب استغلاله جيدا حتى ولو تطلب الأمر الدفع باتجاهه.
فالقاعدة السياسية التي تقول إن هذا الشارع الصاخب والمضطرب، الذي منح الحزب فرصة الحكم، لم يعد عاملا عرضيا وعابرا بل مكونا هيكليا في وجود الحزب وسلطته.
هكذا أصبحت قناعة العدالة والتنمية في العودة المرتقبة ودائمة الاحتمال إلى الشارع مصدرا للقوة والمفاوضة الدائمة من أجل البقاء في السلطة أطول وقت ممكن. هذا هو المحدد النووي للخطاب السياسي لزعيم الحزب الحاكم، كيفما كان سياق كلامه ومكانه فإنه دائم التوجه بخطابه إلى الشارع، فهو يخاطب الشارع وهو في البرلمان وهو في مجلس الحكومة وهو في قمة خارج المغرب، وهو في عشاء رسمي، وكتائبه تتبعه وتسجل «خطابه» لتعممه لمن يهمه الأمر.
لكن الحزب يعي أيضا ضرورة الحفاظ على مبررات اشتعال الشارع ونهوضه، وهنا لا نجازف عندما نصل إلى استنتاج خطير مؤداه أن ليس في مصلحة الحزب أن تبعده السلطة عن الشارع ومن مصلحته أن يبقى احتمال تحرك الشارع واردا، فبهذا التحرك يكون في موقع مريح وهو يتفاوض على السلطة.
ولأن تحريك الشارع من تحت سيكون مغامرة غير مأمونة المخاطر وسيعرض الحزب للمساءلة والمسؤولية المباشرة، فإن الدهاء السياسي دفع الحزب الحاكم لتحريك الشارع من فوق، وذلك بصفر إصلاحات، وصفر إجراءات شعبية، وقائمة هائلة من صلاحيات قدمها الحزب للمراكز الاقتصادية النافذة والباطرونا.
هذا الحجر الذي صوبه الحزب الحاكم يضرب به عصفورين دفعة واحدة، الأول يضمن به عودة ميمونة إلى الشارع، بذريعة تصادمه مع التماسيح، والثاني يضمن تعايشا مسالما مع الجهات النافذة في الدولة لضمان بقائه في أسلاك السلطة.
بعبارة أخرى، يحاول الحزب التوفيق بين تطبيعين متناقضين، التطبيع مع الشارع وخصومه، مع الفقير وخصمه، مع الشاب العاطل وخصمه، وليضمن الإمساك بيد الشارع استوجب عليه الزيادة في وتيرة خطابات «الضحية المستهدفة» بشتى الوسائل وخطابات «تهديد الاستقرار» الموجهة لفوق.
من الطبيعي أن يكون المغرب، ومعه دول المنطقة، تحت مجهر البحث الأمريكي الذي يرصد الحركات التحت أرضية بالمنطقة ويقيس الاختلالات القائمة والتوازنات الممكنة لصالحه. وقد توجهت استشرافات أمريكية تابعة لمناطق ضغط معينة نحو محصلة مفادها أن الوضع بالمغرب ينذر بخطر حدوث اضطرابات شعبية، بسبب نسب البطالة وتردي الخدمات التعليمية والصحية والقضائية.
وطبعا فالأمريكيون عندما يتأسفون لعدم وجود استراتيجية مندمجة للتنمية في المغرب فهم يكشفون عن نفاق واضح، لأن ما يهم الأمريكيين في استقرار المغرب هو مصالحهم الاقتصادية والعسكرية أولا وأخيرا.
ولو كانوا فعلا حريصين على صحة المغاربة مثلا لما تركوا شركات دوائهم العاملة في المغرب تستنزف جيوب المرضى المغاربة. ولنا في الشركة الأمريكية التي تحتكر بيع دواء التهاب الكبد الفيروسي في السوق المغربي، وترفض تداول دواء جنيس مصنع في الهند، خير دليل. فالأمريكيون الحريصون على رفاهية المغاربة، كما يرشح من مقال «فورين بوليسي»، هم أنفسهم الأمريكيون الذين يرفضون أن يتمكن المرضى المغاربة من اقتناء دواء بثلاثة آلاف درهم لكي تستمر شركتهم في احتكار بيعهم الدواء بالملايين كل شهر.
والمصيبة أن هذه الشركة الأمريكية لا تسعى فقط لعرقلة «تجنيس» دواء التهاب الكبد الفيروسي، بل إنها تسعى إلى احتكار استيراد الأدوية الجنيسة من الهند وطرحها في السوق المغربي، بعد مضاعفة سعرها الأصلي بثلاث مرات.
على عهد السفير الأمريكي السابق صامويل كابلان، كان وزير الصحة يتلقى اتصالات هاتفية مباشرة منه كلما تعلق الأمر بمصالح شركات الدواء الأمريكية.
واليوم مع مجيء السفير الجديد المشغول أكثر بالطواجن والمهرجانات، لا نعرف من يتصل بوزير الصحة، لكننا نعرف أن ضغط لوبي الدواء الأمريكي على وزارة الصحة مستمر.
الاحتقان الشعبي الناتج عن الوضع الاقتصادي المتدني للطبقات الشعبية والوسطى يصب في الحساب السياسي للعدالة والتنمية، ومن أجل بعث رسائل مشفرة لمن يهمهم الأمر، فتح الحزب الحاكم، عبر بوابة حركة التوحيد والإصلاح، باب الحوار مع جماعة العدل والإحسان، وقد سبقت ذلك مساهمة كوادر الجماعة في إمداد نقابة الحزب من أصواتهم خلال الاستحقاقات المهنية لممثلي الأجراء الأخيرة مما مكن من فوز نقابة الإسلاميين بالموقع الثالث.
لقد تلقى المعنيون بالأمر رسالة قيادة جماعة العدل والإحسان الرمضانية، عندما لخصت موقفها من النظام الحاكم بالمغرب بكونه لا يصلح بنظرها للعمل من داخله، وأن طموحها السياسي يتجاوز سقف الملكية البرلمانية.
ولم تتأخر رسالة الدولة العميقة، التي جاءت على شكل افتتاحية طويلة بإحدى الجرائد، تنصح جماعة العدل والإحسان بعدم الانسياق وراء المغامرات الانتحارية، في إشارة مبطنة إلى إمكانية حسم الجيش للمعركة في الشارع، في حالة ما إذا فكرت العدل والإحسان في محاولة قلب نظام الحكم.
وطبعا لا يجب أن ننسى أن رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران منح الجيش الحصانة التامة من المتابعة الجنائية في حالة التدخل لإعادة النظام والأمن.
من الجانب الأمريكي، فصلاحيات الملك التي تم تحديدها وتقليصها التدريجي منذ مارس 2011، تبقى غير كافية لتسريع الإصلاحات الماكرو اقتصادية وفتح البلاد للمنطق الليبرالي، الذي يدفع بعدم مركزة السلطة الاقتصادية، على اعتبار المغرب بوابة لها قيمة عسكرية جديدة أو امتداد عسكري للقواعد العسكرية جنوب إسبانيا، كقاعدة «روتا»، والدرع الصاروخي الأمريكي بمضيق جبل طارق وتوافد الأبراج الروسية بمياه المضيق لمواجهة هذا البرنامج العسكري، الذي تعتبر أنه يستهدفها رفقة الصين، رغم أن البنتاغون يقول إنه موجه ضد إيران وكوريا الشمالية.
هذا الدور العسكري الجديد للمملكة تبعته تغيرات كثيرة على المؤسسة العسكرية، بدءا من تعديل النصوص القانونية المنظمة، ومرورا بالصلاحيات الاستراتيجية الموكولة للمجلس الأعلى العسكري وانتهاء بتغيرات خارطة الثكنات والعتاد.
لكن ما علاقة العدالة والتنمية بكل ما يجري في نطاق التحولات العسكرية الإقليمية؟
حكومة الإسلاميين أو بالأحرى الحكومات الإسلامية بمصر وتونس، سابقا، والمغرب هي أولا «فزاعات» لإعطاء مبررات للبنتاغون من أجل رفع ميزانية الجيش الأمريكي بدعوى نهج سياسة «القرب العسكري» بالمنطقة الخطرة لشمال إفريقيا، وهي حكومات تمرر، كما نرى، بسلاسة كبيرة العديد من الصلاحيات الجديدة للمؤسسة العسكرية.
وما وقع بمصر من ابتلاع الجيش للإخوان المسلمين يبقى ورقة فنية يمكن تكرارها في بلدان عربية أخرى، خصوصا المحكومة من طرف الإخوان، وهو السيناريو الذي يجعل العالم العربي الإسلامي يتأرجح بشكل سيزيفي بين خياري «الأسلمة» أو «العسكرة».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى