الرئيسية

صدمة المنزل الضيق

بت في تلك الليلة أجول ببصري في أركان البيت الجديد.. «محمد» لم ينبس ببنت شفة.. سمعته في الليل يقرأ القرآن كثيرا.. غبطته لأنه وجد ما يسلي به نفسه في تلك الليلة المفزعة.. وجد القرآن خير أنيس له في وقت الشدة.. هل تتساوى هكتارات من الأرض في عالم فسيح لا يحده إلا الأفق مع أمتار قليلة وسط مكان مقفر تحيط به الأسوار من كل جانب؟.. وحده القرآن يستطيع أن يهدِّئ من روع الإنسان ويذهب عنه القلق والإحساس بالغبن..
ربما كلام الله وحده من أنقذ «محمدا» من جحيم الكاريان وويلاته.. استسلم في النهاية للنوم.. أما أنا، فلم أستطع أن أتخلص من وساوس الحسرة، ولم يزر النوم أجفاني مطلقا.. أحسست أن أبي أخطأ حينما اتخذ قرار بيع أرض أجداده والاستقرار في هذا العالم الموحش الضيِّق.. تأكدت ليلتها أن القدر بدأ في إظهار أول صفحة من صفحاته «المحفوظة».. وأنه لا مفر من مواجهة كل ما هو آتٍ بعدما عشت عمرا في البادية، تحديت فيها والدي وأخي، وتغلبت على لسعات التمييز التي خدشت نفسيتي الحساسة..
لم يغمض لي جفن ولم يهدأ لي بال حتى طلع فجر يوم جديد.. فمن سوء حظي أن فراشي الجديد جاء ملاصقا لغرفة نوم جارنا «سي براهيم» وزوجته «خديجة».. لأول مرة في حياتي تتنصت أذني على عالم لا أراه.. لأول مرة تسمع همسات الأزواج وهم في فراش النوم.. كنت أنام في البادية في غرفة واحدة مع والدي ووالدتي ولم يحدث قط أن سمعت شيئا من خصوصياتهما.. كانا يكتمان أنفاسهما في ظلمات فوقها ظلمات.. أما ما يحدث في فراش «عمي براهيم» فهو يذاع على الهواء مباشرة.. تسارعت دقات قلبي عندما سمعت أصواتا (…) تنبعث من «البراكة» المجاورة.. لم أفهم ما يجري حولي تلك الليلة.. لقد خدشت الجارة الجديدة «خديجة» حيائي الطفولي..
هل هذه هي المدينة التي كنت أحلم بها؟؟؟
كان لي في كل ليلة موعد مع عمي «براهيم» وزوجته البدينة.. اطلعت على أسرارهما وأنا في بداية عقدي الثاني.. فقدت براءة الطفولة وأنا لم أبلغ الحُلُم بعدُ.. جئت إلى هذا المكان لأعدَّ أنفاس «براهيم» دون تخطيط مني.. ترسخت في ذهني أشياء غير صحيحة عن خصوصيات الأزواج.. يخضع المرء أحيانا في حياته لسلطان المكان..
كان سعال شديد يلم أحيانا بالزوج.. فهمت في ما بعد أنه اشتغل مدة طويلة بمعمل للنجارة.. وتولد لديه مرض الحساسية بسبب غبار الخشب.. سعاله الشديد بالليل يطرد النوم من جفوني.. يصيبني بالحزن الشديد.. حاولت كثيرا أن أغير من مكان نومي لكن دون فائدة، فبالكاد وجدت زاوية أضع فوقها جسدي في الليل.. مع مرور الوقت تعودت على الحياة الخاصة لجيراننا.. هذه من أكبر الخطايا في حياة الكاريان..
وَلَد «براهيم» خمسة أولاد في زمن لم يتعد فيه عقده الرابع.. كانوا سبب تعاسته في الحياة الدنيا ومقدمة لرحيله إلى العالم الآخر.. له ثلاث بنات كلهن امتهنوا الدعارة، إلا واحدة هربت مع خليلها ولم تعد أبدا.. وولدان أفضلهما «حسن».. يعمل في «المجلس البلدي».. وأصغرهما (عبد الرزاق).. يبيع السجائر بالتقسيط ويتاجر في المخدرات.. يروج لمادة «الشيرا»، التي لم تكن تستهلك عندنا في الدوار، ولم يتعرف عليها شباب البادية إلا في السنوات الأخيرة، فالمخدر المفضل عندهم هو «الكيف» كما ذكرت.. تعرفت على شكل «الشيرا» أو «الحشيش» من خلال جارنا «عبد الرزاق».. يشبه الحناء.. يبيع جزءا صغيرا منه بعشرة دراهم في ذلك الوقت..
يحتل منزلنا زاوية زنقة هامة في الكاريان.. يتبوأ منها «عبد الرزاق» موقعا استراتيجيا لمزاولة تجارته.. مع مرور الوقت تحولت زاوية «براكتنا» إلى محج لمستهلكي الحشيش.. اكتسبنا شهرة بسبب «ولد براهيم»، أو «الزلطة» كما يلقبه أولاد الكاريان.. اكتسبت أنا أيضا شهرة كبيرة بسبب الجلوس معه.. في الحقيقة كنت أجلس أمام منزلنا..هو الذي كان يحتل باب دارنا.. تعرفت إلى كل زبنائه.. قضيت وقتا لا بأس به أفكر في هذه الوجوه الكالحة التي ذهب «الحشيش» ببشرتها الناعمة..
تساءلت حينها: كيف يجرؤ المرء على قتل نفسه بهذه السهولة؟؟ كيف يضيع حياة وهبها الله إياه؟؟ ما حيَّر عقلي هو أن شابات جميلات كنَّ أيضا من زبائن «عبد الرزاق».. يلتهمن الحشيش التهاما.. خيمت على شفاههن غمامة قاتمة بفعل الدخان.. كم تحسَّرت عليهن.. أجلسني القدر في هذا المكان لأتعرف إلى خلق كثير..
منزل جارنا «براهيم» لا يعرف معنى الهدوء والاحترام والفضيلة أبدا.. شجار وعراك وعويل منذ طلوع الشمس إلى طلوع فجر اليوم الموالي.. يا له من عالم متناقض!!!
عندما طُرد «براهيم» من العمل لم يعد قادرا على الكد من جديد.. استسلم إلى الراحة واستحلى عائدات بناته من الدعارة.. قمن بتجديد أثاث البيت.. واشترين جهاز تلفاز وفيديو.. لأول مرة في تاريخي تفرجت على التلفاز عند جارنا.. سهَّلت لي المأمورية بنته «حليمة».. كانت رائعة الجمال والأدب، إلا أن حرفتها لم تكن شريفة.. تحسرت كثيرا على هذه الفتاة الجميلة، كيف زهدت في جسدها وباعته بثمن بخس دراهم معدودة.. كانت تنادي علي كل مساء، فتدخلني إلى بيت «عمي براهيم» وتجلسني أمام التلفاز (أدمنت في هذه المرحلة على متابعة أفلام رعاة البقر الأمريكية).. المسكينة تشتغل بالليل فحسب..
حينما يقترب المساء تتجهز «حليمة»، فتلبس أحسن ما لديها.. تبدع تسريحة شعر رائعة جدا.. بواسطتها كانت تغري زبائنها «المغفلين».. تستعمل عطرا من النوع الجيد.. عندما تستعمله في المساء يخترق الحاجز الخشبي الذي كان يفصل منزلهم عن «براكتنا».. أعلم بوجودها من خلال عطرها المتميز والفتَّان.. تبيت خارج المنزل ولا تعود إليه إلا في الصباح.. الجميع على علم بعملها.. ولم أسمع قط أحدا عاتبها أو لامها عن تغيباتها المستمرة عن المنزل..
في كل صباح تعطي «عمي براهيم» عشرين درهما ثمن السجائر.. وفي بعض المرات يطلب منها المزيد.. لا يشبع من المال أبدا.. ظننت في ما بعد أنه يستعمل مال ابنته في القمار.. والله أعلم.. تعطي أخاها «عبد الرزاق» أيضا المال، ولو أنه تاجر مخدرات.. لا يمل من شرب «الخمر الأحمر» مثله مثل «الشريف دحمان» عندنا في الدوار.. كان قصيرا مثل أمه وقوي البنية.. لا أحد يستطيع الاقتراب منه في «الكاريان»، خصوصا أثناء عربدته الخطيرة.. يشتم الجميع بأقبح الأوصاف ولا أحد يستطيع ردعه، أو الضرب على يديه.. تأذينا كثيرا منه.. ومن خلاله تعرفت على كل الألفاظ الفاحشة.. وعلى الجانب المتعفن للحياة..
يختلف عن أخيه الأكبر «حسن» في أشياء كثيرة.. كان هذا الأخير استثناء داخل أسرة «عمي براهيم».. يتفنن في اللباس.. يكاد يحافظ على أناقته في كل المناسبات حتى داخل «البراكة».. يتعايش بشكل غريب مع واقعه الفاسد.. قليل الكلام وكثير التكتم.. يفرط في شرب القهوة والتدخين..
عند الانتهاء من عمله يذهب إلى المقهى، لأن طبيعة عمله داخل «البلدية» فرضت عليه تكوين علاقات واسعة في الكاريان وفي المدينة.. يشتغل في المصلحة المكلفة بالبناء والتراخيص.. وقبلها عمل في مصلحة تصحيح الإمضاءات.. تطبَّع مع الحياة الإدارية للبلدية وعُرف بالارتشاء داخلها.. يكسب مالا كثيرا، لكن «خليلته» التي أصبحت زوجته في ما بعد «كوَّشت» على جميع ثروته التي كنزها من الحرام.. تسيطر عليه هذه المرأة سيطرة تبعث على الاستغراب.. وتفسر والدته حالته هاته بأنه وقع ضحية لأعمال السحر.. يتغلب المسكين على قهر الزوجة بشرب الخمر أحيانا..
كانت «براكة براهيم» روعة في الجمال.. كل شيء في مكانه الصحيح.. زرابي مبثوثة في كل مكان.. وأواني مصفوفة في لوحات فنية ألوانها متناسقة.. ظاهر «براكة» جارنا ليس كباطنها.. من الخارج تبدو متواضعة جدا، أما من الداخل، فهي أحسن من بيوت عديدة وسط المدينة.. ولا مجال لمقارنتها مع «براكتنا»، فحال هذه لا يعجب لا من الداخل ولا من الخارج..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى