الرأي

طبخ دبلوماسي في شرق إفريقيا

في مناسبة إثارة مآزق الدبلوماسية التي تحتمي بسياسة ردود الأفعال، تحضرني وجوه وأسماء من بين الذين عاركوا بذكاء لتثبيت حقوق وتطلعات. لم يكونوا جميعا من خريجي «المدرسة الدبلوماسية»، ومنهم من فتح فروعا في عالمها المليء بالمستجدات.
بين السفير الموظف الذي لا يحشر نفسه في أي موقف يمكن أن يجلب عليه المصاعب أو التقدير، والسفير المناضل الذي لا يعبأ لاقتحام الفضاء الواسع للمبادرات، كلاهما يبني مسؤولياته على قناعات متباينة. وأكثر القضايا إقناعا تخسر فرص بلورة معالمها في حال انشغل بعض دبلوماسييها بغير الجوهر. وصارحني سفير مغربي بأنه أكثر حظوة، لأن لا مشاكل بين المغرب ومركز تمثيليته، وأن المبادلات التجارية ضعيفة، وقلما كان يتلقى اتصالات تستفسره عن قضية ما.
على عكسه كان آخرون يتحرقون من أجل فعل شيء يزيد في صداقات البلاد. وبينما كان محمد المحجوبي، كاتب الدولة في الأنباء والسفير في نواكشوط، يعتبر التعريف بتراث وحضارة المغرب، وإن عبر الترويج للزرابي وجلسات الشاي، مقدمات لا غنى عنها، كان السفير المخضرم سعد الدين الطيب نموذجا لا تغويه الواجهة. فهو لا يتقدم الصفوف الأمامية عند التقاط الصور، ويكون في صلبها محاورا مقنعا، يجادل المترددين ويتورع عن إصدار الأحكام، ويفتح قلبه كما بيته آناء الليل والنهار.
هي نماذج اختارت حمل الأثقال من غير خفتها. ودهش سفير سابق في عاصمة من بلدان أمريكا اللاتينية، زار مكتبا لرعاية الموظفين في وزارة الخارجية، يسأل عن مآل وضعه الوظيفي، حين وجد تقريرا أمضى وقتا طويلا في إعداده، بخلفية لقاءات عديدة مع أمين عام سابق للأمم المتحدة، يرقد في الرف مثل درجات تنقيط الموظفين، فيما تصور أنه أنجز عملا جبارا.
ولأن الدبلوماسية بكفاءاتها ورجالاتها ومنظورها بعيد الرؤية، كان سعد الدين الطيب مختلفا. وبينما تحول سفراء إلى تجار أثواب ومجوهرات وأخشاب حتى، كان السفير الطيب ينفق من ماله، وبالكاد يتردد اسمه في مباحثات رسمية. قليلا ما كان يظهر في الصورة، لكن حضوره في ترتيب أحداث ولقاءات على قدر كبير من الأهمية، كان يزيد عن إعداد الأجواء الملائمة لانطلاق مبادرات عديدة، بخاصة تلك التي همت علاقات المغرب بدول شرق إفريقيا. ومكنته ثقافته الواسعة والمنفتحة من ربط صلات مع مثقفين عربا وأفارقة وأجانب. وكم من مرة تسببت مبادراته في إحراج مسؤوليه، ولم يكن خافيا عنه أن بعض الوزراء الذين تعاقبوا على رئاسة الدبلوماسية، كانوا «يخدرونه» لأنه لا يفتر عن الحركة والمبادرة.
لا يفرغ بيته في نيروبي أو أي عاصمة إفريقية حل بها من سمر الثقافة والسياسة وجدل الفكر والفن. وعلى رغم أن زوجته أجنبية، فقد برعت في إعداد الأطباق التقليدية المغربية، وتقديمها في أي وقت وحين للزوار الوافدين بدون موعد. أليس الطبخ ثقافة وحضارة ينبهر الذواقون بطعمه وتنوعه وثرائه، حتى صار من العلامات التي تميز الدول والشعوب والخصوصيات؟ فهو من بين الكنوز التي تختزنها الدول العريقة، كما المآثر المذهلة والعمران البديع.
أن تتعلم أجنبية أبجديات اللغة العربية أو العامية أو الأمازيغية، وتتقنها مثل لغة الأصل، فالأمر أقرب إلى تمارين فكرية على نقش الحروف والإيقاعات، لكن تعلم الطبخ لا يكون من دون الافتتان به والنفاذ إلى أسراره. وفاجأت دبلوماسية أمريكية أصدقاءها في الرباط بالدعوة إلى عشاء في حضور مغاربة، بأن قدمت مأكولات من الطبخ المغربي التقليدي قالت إنها أمضت وقتا أطول في اكتساب مهاراتها، موضحة أن ذلك جزء من مسؤولياتها الدبلوماسية في التعرف على تقاليد وحضارات الأمم.
لكن دبلوماسيين أجانب تريثوا في إدراك دلالات استضافة مراكش مؤتمر رؤساء مطابخ القادة، من ملوك وأمراء ورؤساء. وانتشى بعضهم فخرا بأنه قدم الأطباق المفضلة إلى موائد رسمية استضافت زعامات دولية، وهو يضع في الاعتبار أن التعرف على تقاليد وثقافة بلاده يبدأ من تذوق شرائح اللحم والجبن والعجة والفواكه الخالية من غير المواد الطبيعية.
هل كان سعد الدين الطيب فلسطينيا أو أردنيا يحمل الجنسية المغربية، أم كان مغربيا أكثر انفتاحا على هموم العرب القومية؟ في أي حال فالمغرب لم يبخل على قياديين فلسطينيين بارزين بمنحهم الجنسية المغربية التي ساعدتهم في تحركاتهم إلى أوروبا والعالم، قبل أن تحد اتفاقات «شينغن» من حركة الانسياب الطبيعي لتنقل الأشخاص، وبالأحرى إذا كان الشخص مغربيا بالأبوة أو الأمومة، وذا كفاءة عالية. فقد ساعدته ثقافته الأنجلوساكسونية على أن يكون أقرب إلى عقول محاوريه الأفارقة والأجانب.
في فترة التركيز على تداعيات الحروب الدبلوماسية والعسكرية في منطقة الشمال الإفريقي، يوم كانت امتدادا لصراع الوكالة في الحرب الباردة، كان الدبلوماسي سعد الدين الطيب يحمل رؤية مغايرة، تشير إلى مركز الثقل الآخر في شرق إفريقيا، ولم يكن يغرق بين تجليات الأحداث في غرب إفريقيا وحرب تشاد، وأزمة الأوغادين والأوضاع في أثيوبيا وكينيا وإريتريا التي كانت تصارع من أجل الاستقلال.
كان ينطلق من فكرة أن شرق إفريقيا يمثل المدخل الآخر لمحاورة بلدان إفريقية وغربية، من غير فرنسا وإسبانيا والبرتغال. وجمعتني به دردشة في أديس أبيبا عن أهمية هذا المحور الذي يجمع بين قربه إلى العالم العربي عند الموقع الاستراتيجي في البحر الأحمر، وبين التطلعات الغربية المشرئبة إلى المنطقة. أذكر أنه قال إن تجاهل خاصرة العالم العربي، عند الصومال وجيبوتي وإريتريا والسودان، ستكون له تداعيات سلبية على التوازن الاستراتيجي القائم. وإن المغرب، بسبب نفوذه التاريخي الذي امتد إلى العمق الإفريقي، في إمكانه أن يوازي بين تحديات غرب وشرق القارة السمراء.
حدث هذا قبل عقود، وأين نحن الآن؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى