الرئيسية

طبيخ الشحاذين

سعيد الباز
تعرض الرئيس رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية التركي خلال الانتخابات البلدية، في الأسبوع الماضي، إلى أكبر انتكاسة انتخابية خسر فيها معظم المدن التركية الكبرى مدينة إسطنبول والعاصمة أنقرة ومدينة إزمير. هذه المدن، وخاصة إسطنبول التي كانت قد مثلت في الأصل الانطلاقة السياسية الحقيقية للرئيس أردوغان، الذي أصبح الشخصية الأكثر هيمنة على الحياة السياسية خلال العقدين الأخيرين.
هذه المدن كانت هي الواجهة التي أطل منها حزب العدالة والتنمية التركي، ليبرز مدى نجاحه السياسي والاقتصادي وخلق صورة نموذجية لحزب إسلامي، خاصة في العالم العربي والإسلامي، ما يشكل دعما قويا للأحزاب الإسلامية التواقة إلى ممارسة الحكم، واعتقادها المضلل أنها البديل التنموي القادر على إحداث هذه الطفرة الاقتصادية، مع الحفاظ على الهوية والخصوصية الحضارية وإنجاز مشروعها الأساسي على أرض الواقع، أي الوصول إلى الدولة الدينية في نهاية المطاف.
ويرى كثير من المتابعين للشأن التركي أن هذه الانتكاسة لها دلالة قوية، إذ تشير إلى تحول عميق في البنية الاجتماعية لساكنة المدن الكبرى، التي بفضلها حسم أردوغان كل الانتخابات السابقة والاستفتاء الذي خول له إجراء تعديلات دستورية هامة جعلت النظام رئاسيا موسع الصلاحيات، بفضل مهادنة الطبقة الوسطى التركية المعروف عنها طابعها العلماني ووفاؤها لإرث كمال أتاتورك، باني جمهورية تركيا الحديثة على أنقاض الخلافة العثمانية، رغم قراراته الماسة بالحريات وقيم الجمهورية، بسبب النجاحات المتتالية للاقتصاد التركي وقدرته على الاندماج السريع في نظام العولمة.
هذه المهادنة لم تكن بأي حال من الأحوال شيكا على بياض، بل كانت ظرفية ومؤقتة ومشروطة، فالانتهاكات المتواصلة للحريات للرئيس أردوغان، مثل منع بعض المواقع الإلكترونية على عموم الشعب التركي، التعسفات التي طالت صحافيين وإعلاميين وحجم المتابعات، وظهور فضائح فساد منسوبة إلى محسوبين على الحزب الإسلامي، وتداعيات الانقلاب الفاشل وما صاحب ذلك من محاكمات وإيقاف الآلاف عن وظائفهم، وفرار العديد من الصحافيين والأقلام الحرة خارج بلادهم خوفا على أنفسهم، جعلت فئات عريضة من هذه الطبقة تعيد النظر في مهادنتها السلبية ومعاودة الدفاع عن مصالحها.
إن دخول الاقتصاد التركي حالة الانكماش، والسقوط المدوي لعملة الليرة التي تواصل انهيارها، ونسب التضخم السائرة في الارتفاع، فضلا عن حجم المديونية أعاد نظر الجميع إلى التفكير في حقيقة ما اعتبره بعض المغالين بالمعجزة الاقتصادية التركية، التي كثيرا ما نسبوها إلى أردوغان.
كانت تركيا الحديثة منذ نشأتها تتعرض كل عشر سنوات لحالة مماثلة، ما جعلها ضحية للانقلابات العسكرية وسقوط العديد من الحكومات الائتلافية الهشة، استدعت القيام بإصلاحات موسعة كانت أولاها في عهد رئيس الوزراء سليمان ديمريل في الثمانينات من القرن الماضي، استهدفت الرفع من الصادرات وضبط ميزان المدفوعات، تلتها إصلاحات أخرى ظلت محتشمة لا تحقق الاستقرار الاقتصادي لتركيا.
وصادف أردوغان نظام العولمة وأسسه القائمة على ليبرالية متوحشة، وكغيره من الإسلاميين فتح الباب على مصراعيه للاقتراض الخارجي حتى بالنسبة إلى الأبناك التركية، وقام بعملية خوصصة كاملة للقطاع العام، حيث آلت جل الشركات الوطنية إلى المستثمر الأجنبي، ما منح الخزينة سيولة مالية كانت السبب في خلق حالة انتعاش ظرفية، وعندما أحكمت الدائرة بدأ الخلل في ميزان المدفوعات، فنسبة الأموال الخارجة من تركيا في ارتفاع أكثر من التي ترد إليها كل سنة، ليضعها أمام شبح التضخم والإفلاس.
إن وصفة أردوغان هي نفسها الوجبة التي تحضرها الأحزاب الإسلامية التي لا تعمل إلا بما هو موجود، أو على الأصح بما يملى عليها، دون أي ابتكار أو عمق تفكير. إنها كما يقول المشارقة طبيخ الشحاذين، الذي يجمع في إناء واحد ما تسوله طيلة يومه ليعد في المساء وجبة لا طعم لها ولا لون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى