الرأي

طنجة.. وعذاب القبر

يونس جنوحي
«تشبه كثيرا حياة البرزخ». هكذا تحدث إليّ مواطن من إفريقيا جنوب الصحراء عندما سألته عن رأيه في الحياة بطنجة. يعمل ماسحا للأحذية على عكس الآخرين الذين يعملون باعة متجولين في انتظار العبور إلى سبتة.
وصف بليغ فعلا، فالكثيرون اليوم، مغاربة وأجانب، يعيشون داخل طنجة حياة تشبه كثيرا حياة البرزخ، في انتظار العبور إلى الجنة الأوربية. يسمعون كثيرا عن الحياة في «عروس الشمال» ويتناقلون عنها قصصا تشبه كثيرا ما يُتداول عن عذاب القبر، ويعبرون ممشى أشبه كثيرا بالصراط لكي يصلوا إلى العالم الآخر، حيث يعتقدون أنهم ذاهبون إلى الجنة قبل أن يكتشف أغلبهم أنهم كانوا يمتلكونها فعلا قبل العبور إلى جحيم معتقلات المهاجرين في انتظار إعادتهم إلى بلدانهم الأصلية أو سجنهم لفترة، لا تكون قصيرة في الغالب.
طنجة، المدينة التي كانت مرفأ لبواخر العالم. يأتي إليها الجميع من كل حدب وصوب لاكتشاف لياليها وشتائها الذي لا يشبه الشتاء في أي مكان آخر. حتى الصور التي تلتقطها لها الأقمار الصناعية توحي بأنها مدينة «مُحرجة» من الوقوف طوال هذه القرون في وجه أوربا التي لم تعد ترغب بأحد.
ترى دائما مواطنين مغاربة ومن جنسيات أخرى يقفون أمام كل النهايات الجغرافية لطنجة التي تطل على المتوسط، ويتأملون «خيال» أضواء إسبانيا ليلا، أو شبح أراضيها نهارا وينفثون دخان السجائر في اتجاه الرياح وكأنهم يعبرون بأرواحهم إلى هناك تاركين أجسادهم الثقيلة ملقاة على الإسفلت مع أعقاب السجائر.
في طنجة يعيش وحوش العقار الذين يرغبون في تحويل كل جدرانها القديمة إلى إقامات سكنية يوزعون فيها الشقق على المغلوبين على أمرهم بتواطؤ مع الأبناك. ومؤخرا فقط أفشلت محاولات كثيرة لتحويل فنادق قديمة وعمارات سكنية تعود إلى زمن الوجود الإنجليزي في المغرب إلى مشاريع عقارية قبيحة بدون أي نسق واضح. بنايات بيضاء كئيبة بزجاج لامع يحمل من الغموض أكثر مما يعكس جمالية المدينة.
أقدم مسرح في القارة الإفريقية كلها يوجد في طنجة، يقبع في بناية شاحبة، ويحمل اسم «سيرفانتيس». بناه الإسبان في سنوات هيمنتهم الفكرية على المدينة منذ 106 سنوات، منتصرين بإقامته على الإنجليز الذين لم يخلفوا خلفهم سوى القصور الفخمة التي حُولت إلى متاحف وقنصليات ومجموعة من المقاهي التي تحمل أسقفها إلى اليوم قصص صحفيين من لندن وأدباء كتبوا عن طنجة ووصلت معهم إلى العالمية. شربوا هناك الشاي وتصفحوا الجرائد التي كانت تصل عن طريق البحر وتحمل أخبارا «غير سارة» عن المفاوضات لتحويل المغرب إلى مستعمرة في وقت كانت فيه طنجة مُستعمرة بالفعل وتقتسمها دول أوربية كثيرة في ما بينها.
في الوقت الذي يسعى فيه المثقفون إلى رؤية مسرح «سيرفانتيس» فاتحا أبوابه مجددا في وجه هذه الأجيال الجديدة التي لا تعرف عن طنجة أي شيء، يحلم وحوش العقار بالصباح الذي يستيقظون فيه على خبر سقوط جزء من سقف المسرح أو «طرف» من اللوحة اللامعة التي تحمل اسمه بالحروف اللاتينية وتاريخ بنائه، أي 1913، لكي يجدوا مسوغا قانونيا للحصول على قرار الهدم وكأن الأمر يتعلق ببناء عشوائي. بينما يتعين على الأوصياء على هوية هذه المدينة أن يبادروا إلى ترميمه وحمايته من الاندثار بدل أن يتبول العابرون إلى الضفة الأخرى على جنباته.
عندما تمطر بغزارة في طنجة هذه الأيام، يتجه الكثيرون من المُعلقين في هذه المدينة في اتجاه الكنيسة التي لا تبعد كثيرا عن منظر «الحافة». يقفزون على سورها ويحتمون بأروقتها من الأمطار في انتظار أن يصحو الجو ليعودوا إلى محاولة البحث عن خلاص ما، يعتقدون أنه سيتحقق بمجرد قطع البحر في الاتجاه الآخر، وهم لا يعلمون حقيقة أن طنجة قضت حياتها كلها في تأمل العابرين، من البرزخ وإليه أيضا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى